عمّا قليل، وما أن يحل المساء الأخير من السنة المنصرمة، سوف تمتلئ الشاشات بالمنجّمين الكذبة. توقعات وتحليلات تافهة وسخيفة لا تنطلي إلا على السذج والبلهاء، أو على المتعلقين بحبال الهواء بفعل أزمةٍ ما، يعانون منها، وهذا ما يجعلنا نضيف الى صفتي الكذب والدجل اللتين يمارسهما عرّافوا الشاشات، صفات الخداع والاستهتار وابتزاز اولئك الذين يعيشون ضائقات كثيرة صحية ونفسية واجتماعية واقتصادية... الخ. تتندر «الصالونات الاجتماعية» بحيلة طريفة لجأ اليها أحد المشاهدين حين اتصل بأحد «البصَّارين» المتلفزين قائلاً له إن أمه تعاني مشاكل صحية ويريد معرفة ما يحمله لها قابل الأيام. أجابه «البصّار» بأن أمه ستتماثل الى الشفاء خلال اسبوعين. لكنه ارتبك وتلعثم وأسقط في يده حين كشف له المتصل أن أمه ماتت قبل سنتين! شيوع ظاهرة التنجيم و «التبصير» التي تغزو الشاشات (اللبنانية خصوصاً) ليلة رأس السنة الميلادية، وتحظى بساعات بث طول العام، ما هي إلا دليل آخر على حالة «الهبل العام» الذي يضرب مجتمعاتنا ويحولنا مجرد متلقين لكل التفاهات الضارة التي «تبخّها» علينا وسائل الإعلام الغارقة في الهم الاستهلاكي والتجاري إلا من قلة قليلة تنطلق في سلوكها الاعلامي من همّ معرفي أو تنويري. رب قائل ان قادة كباراً وزعماء ورؤساء يلجأون الى المنجمين والبصَّارين. صحيح، ومن قال إن هؤلاء احسن حالاً من رعاياهم، وأنهم افضل وأبعد نظراً وأعمق رؤيةً. فلو كانوا كذلك، هل كنا غارقين في وحول المشاكل والأزمات كما هو حالنا الآن، وهل كنا نرجو كلَ عام أن يكون الذي يليه أفضل من سابقه ثم نتحسّر على ما مضى؟ المنجمون الكذبة ليسوا حكراً على أولئك الذين يطلّون عبر الشاشات لممارسة الدجل والخداع. ثمة منجمون كثر في كل المواقع والمناصب، ولعل مأزق مجتمعاتنا يكمن في جانب من جوانبه، بالاتكال على «المنجمين» باختلاف مواقعهم وأنواعهم. ففي كل النخب السياسية والفكرية والاعلامية والاقتصادية ثمة من يمارس عمله بذهنية المنجّم. وقد بات شائعاً ومعلوماً مدى الإهمال والاستهتار الذي تلاقيه البحوث العلمية والدراسات الجادة، وما هو المصير الذي تنتهي اليه عند «أصحاب القرار» حيث يُلقى معظمها في الأدراج إن لم يكن في سلات المهملات، إذ ما حاجتنا اليها ما دام «القائد الملهم» هنا أو هناك، عارفاً بكل أمر، فاهماً في كل شيء، مدركاً لما كان وسوف يكون، مطلعاً على خبايا الصدور، لا لعلمٍ أو معرفة بالغيب طبعاً، بل لقوة أجهزته (اللي ما تتسماش) وبراعتها في «علوم» الأجناس والأنفاس، أي في شكل آخر من أشكال التنجيم الذي يحكم مجتمعاتنا ويتحكم بها وبمستقبلها. ما من داعٍ للتذكير بأن علوم الفلك التي برعت بها العرب قديماً ولا تزال تشكل حتى اليوم مرجعاً لكثير من العلوم المعاصرة، لا علاقة لها بتاتاً ب «علماء الفلك» المتلفزين الذين لا تفسير لكثرتهم سوى إدراجها ضمن «كثرات» كثيرة تكون عادة سمة عصور الانحلال والانحطاط، كثرة «المنجمين»، كثرة «أطباء الأعشاب»، كثرة «باعة الوهم»، كثرة برامج «الربح السريع»... وكل هذه الكثرات ما هي الا برهان على «القلّة» التي نحيا فيها. مشكلة المنجمين الذين سوف يكذبون علينا هذا المساء، عدا الأذى الذي يلحقونه بالبلاد والعباد، تكمن في أنهم يصدقون أنفسهم أحياناً، فيكذبون علينا بكل صدق. *** في كلمته الطيبة عن ديواني الجديد «راقصيني قليلاً»، نسب اليّ الصديق الزميل جهاد الخازن كتاب الشاعر الأثير محمود درويش «لا أريد لهذي القصيدة أن تنتهي»، معتبراً إياه واحداً من دواويني فأخذت الأمر على محمل الإطراء لا الخطأ. لأن الانتساب الى درويش انتساب الى الموهبة في أبدع تجلياتها، أما الصديق عن بعد الزميل راسم المدهون فعساني عند حسن ظنه ومودّته.