لم يُغمض كنعان إفرين، الرئيس السابق قائد الجيش الذي نفّذ آخر انقلاب عسكري غيّر وجه تركيا، عينيه راحلاً عن الدنيا إلا بعدما حاسبه التاريخ على أهم «إنجاز» في حياته، وهو انقلاب العام 1980. وطال عمر إفرين حتى حوكم - ولو بعد عقود - على فعلته وتوفي وهو محكوم بالسجن المؤبد اثر إدانته بالانقلاب العسكري، ولو أن القانونيين ما زالوا يتساجلون في شأن القانون الذي حوكم بموجبه، وصلاحيته في تجريم الجنرال الذي ظهر أمام القاضي وهو على سرير المرض، مدافعاً عما فعله، اذ قال: «حركة 12 ايلول (سبتمبر) كانت حدثاً تاريخياً. والأحداث التاريخية لا يمكن محاكمتها، بل فحصها علمياً». واعتبر أن «الأمّة التركية العظيمة لم تكن تستحق أن تعاني أحداث» ما قبل الانقلاب، وزاد: «ما فعلناه كان صائباً في ذاك الوقت، وإذا حدث ذلك الآن، لكنا نفّذنا انقلاباً عسكرياً مرة أخرى. لست نادماً على أي شيء». ورفض إفرين الردّ على أسئلة المدعين العامين، معتبراً أن لا حق للمحكمة في مقاضاته. لكنه أصدر بياناً مقتضباً وَرَدَ فيه أن الجيش اضطُر للتدخل وإحلال «نظام دستوري جديد لترسيخ السلام والهدوء». رحل إفرين عن عمر ناهز 98 سنة، ولم تحُلْ كل القوانين والمواثيق التي وضعها بيده في الدستور الذي أشرف على وضعه عام 1982، دون محاكمته ورفع الحصانة عنه. والأدهى أنه توفي قبل شهر من انتخابات نيابية مهمة تتفق كل الأحزاب المشاركة فيها على ضرورة التخلص من ذاك الدستور العسكري، ووضع دستور مدني جديد. فيما كان على سرير الموت، رأى إفرين نهاية الحقبة التي أسّس لها وقتل من أجلها آلاف من الشبان، بينهم ناشطون يساريون وقوميون، ما دفع الصحف القومية لتجاهل خبر وفاته، فيما عنونت صحيفة «جمهورييت» الأتاتوركية المعارضة «وفاة الديكتاتور»، في مفارقة كبيرة، خصوصاً أن إفرين برّر انقلابه العسكري بابتعاد الحكومة عن مبادئ أتاتورك وتهديدها علمانية الدولة، إضافة إلى تدهور الوضع الأمني. وإذا كان في تركيا من دافع سابقاً عن الانقلاب، بذريعة أنه أنهى أشهراً من بحور دم أُريقت خلال مواجهات شبه يومية بين شبان قوميين يمينيين، وآخرين يساريين، في أجواء أشعلت حرباً باردة في البلاد، إلا أن أحداً في تركيا لم يعد يذكر من ذاك الانقلاب سوى التعذيب وإعدامات جماعية أسفرت عن مقتل آلافٍ من الشبان، بعد محاكمات صورية، وفجّرت أضخم تمرد كردي أدمى تركيا لعقود، بعدما خرج أكراد تعرّضوا لتعذيب في السجون، ليؤسسوا «حزب العمال الكردستاني»، بينهم زعيمه عبدالله أوجلان. وفي فيلم وثائقي عن انقلاب 1980، قال إفرين: «قد يكون ذلك حدث، ولكن لا الحكومة (التي شكّلها الجيش) ولا المجلس (العسكري) أصدرا توجيهات بممارسة التعذيب أو الاضطهاد». إفرين الذي لم يكن معروفاً قبل الانقلاب، نصّب نفسه رئيساً تاسعاً للجمهورية لمدة 9 سنوات، ليضمن ألا تحيد الساحة السياسية عن الدستور الذي وضعه، وليتأكد من أن الخريطة السياسية التي وضعها لتركيا، تسير كما أراده لها. ويُتوقع أن يُنظّم لإفرين تشييع رسمي وأن يُدفن في مقابر الرؤساء في أنقرة، وهذا أمر قد يحرج زعماء سياسيين كثيرين سيُضطرون لحضور جنازته، على رغم عدائهم لإرثه السياسي. ولم يشفع لإفرين اعتزاله السياسة بعد تنحيه عن الرئاسة، وإقامته في منزله على بحر مرمريس جنوب غربي تركيا، ليتفرغ لهواية الرسم، اذ يدرك الساسة الصعوبات التي واجهتها البلاد للتخلّص من نظام الوصاية العسكرية الذي أسّس له دستورياً، والذي انتهى قبل وفاته بسنوات. لكن رحيله سينهي حقبة كاملة يعتبر كثيرون أنها كانت مظلمة في تاريخ تركيا، فيما يدافع عنها قلّة ممّن ما زالوا يؤمنون بضرورة أداء العسكر دوراً في الحياة السياسية. خليل سيفغين الذي كان وزيراً للصحة أواخر ثمانيات القرن العشرين، لفت إلى أن «التدخل العسكري حدث فيما كان أخوة يتقاتلون». وتابع: «جميع الذين عاشوا ظروف تلك المرحلة، يدركون أن الجميع كان ينتظر تدخل الجيش. ثم تعرّض (إفرين) لانتقادات كثيرة وحوكم».