بين مجموعة الأفلام الأميركية التي تناولت الأثر الذي تركته حرب العراق في الشعور الجمعي الأميركي الآني، يمكن اعتبار فيلم مجازفات، الذي انتج عام 2009، وعرض في عدد قليل من المهرجانات السينمائية، اقلها رغبة، في الهجوم الواضح على النظام السياسي (والمناخ الاجتماعي) الذي قاد البلاد الى الحرب. فأفلام مثل «غريس رحلت»، «في وادي ايلاه»، «الرسول»، تتوجه كل على حدّه وبأسلوبية مختلفة الى تشريح بنية المجتمع الأميركي اليميني المحافظ. مجتمع وسط أميركا الجغرافي، والذي بدأ منذ عام 2004، يواجه نتائج الحرب المباشرة، وخساراتها البشرية الملموسة. ففي فيلم «غريس رحلت» للمخرج جيمس سي سترواس يعجز الأب والذي أبلغ بطريقة مبالغ في تهافتها، ابنتيه المراهقتين بمقتل والدتهن الجندية في معارك العراق، فيأخذ البنتين في رحلة في قلب أميركا، ليواجه في تلك الرحلة أشباحه الشخصية والعامة كلها. وإذا كان البطل في فيلم «في وادي ايلاه» للمخرج بول هيغيس لم يفقد ابنه الجندي في حرب العراق، ولكن بعد عودته منها بأسابيع، فإن الفيلم بدا اكثر انشغالاً من الفيلم السابق بعنف تلك الحرب، الذي حمله الجنود الى مدنهم الأميركية الصغيرة، ليرتد على منظومة القيم التي يحملها جيل الأب في الفيلم، والذي على رغم انه يصل الى كل الأجوبة التي كان يبحث عنها في الفيلم، الا انه يبقى وحيداً في النهاية مع خساراته، وانهيار عالم «المثل الوطنية»، الذي آمن به لفترة طويلة، وربما طويلة في شكل غير مبرر. في المقابل تتشابه قصتا فيلمي «الرسول» للمخرج اورن موفمان وفيلم «مجازفات» للمخرج روس كاتيس، فالفيلمان عن الجنود الأميركيين الذين يقومون بإبلاغ عوائل الجنود الأميركيين عن مقتل أبنائهم في حروب العراق وأفغانستان، لكن التشابه ينتهي هنا، ففيلم الرسول والذي عرض لأول مرة في مهرجان برلين السينمائي الماضي، يمر على العديد من الظروف الاجتماعية للجنود الأميركيين الذين اشتركوا في الحرب. كالفقر، والرغبة في الانضمام الى المجتمع الأميركي، والتي كان يجب ان تمر من طريق «بوابة العراق». إضافة الى ذلك، قدم فيلم «الرسول»، أزمات تقترب من الانهيارات النفسية أحياناً، لدى الجنديين بطلي الفيلم، اللذين يقومان بتسليم الرسائل لعوائل الجنود الموتى. فهما اشتركا في حروب سابقة قريبة، والمهمة الجديدة أعادتهما الى قلب تلك الحروب ونيرانها. «مجازفات» لا يشكو بطل فيلم «تمجازفات» من أي أزمات نفسية ظاهرة، أو ربما هو نجح في إخفائها في شكل محكم، تحت طبقات من المحافظة والتهذيب. هو أيضاً كان أحد الذين اشتركوا في حرب تحرير الكويت. لكنه لم يشهد الكثير من المعارك هناك. ربما لهذه الأسباب يطارده الشعور بالإثم. فهو يتابع وكما ظهر في المشاهد الأولى من الفيلم، الأسماء التي تنشرها وزارة الدفاع الأميركية للجنود الذين قتلوا في العراق. يجلس في منتصف الليل، يحاول ان يتذكر اسماً معيناً من الذين عرفهم أثناء خدمته. وعندما تصل جثة جندي شاب الى القاعدة التي يعمل فيها البطل، يقرر الأخير ان يأخذ الجثة الى المدينة الصغيرة حيث تعيش أم الجندي، المنفصلة عن زوجها. يفرد الفيلم الكثير من الوقت للاستعدادات لنقل الجثة، يقدمها كطقس عسكري شاعري كثير الخصوصية، يخص العسكر ومجتمعهم المغلق. بعض من تلك المشاهد، وبخاصة تلك التي تتعلق بتنظيف الأغراض الشخصية التي كان يحملها الجندي القتيل، او إعداد بدلة عسكرية خاصة مطرزة بالنياشيين لجثة الجندي، وسمت بالكثير من الرثاء. ونأت عن مشاعر الوطنية الأميركية الحديثة التي تصل أحياناً الى حدود الفجاجة. لا يرغب الفيلم المأخوذ عن قصة حقيقية والذي أنتجته محطة «HBO» الأميركية، الدخول في نفق السياسة الذي لا يفضي الى شيء، وبدا من تجارب سينمائية سابقة، أن الجمهور الأميركي غير مهتم بمشاهدته على الشاشة، هناك إشارات قليلة للغاية عن المأزق السياسي للحكومة الأميركية، وهناك حوار قصير، بين البطل وفتى عن الحرب، التي وصلت الى أصدقاء ذلك الفتى، وقتلت أحدهم. الذروة الغائبة لا يصل الفيلم الى ذروة أو عقدة كبيرة، وربما هذه إحدى المشكلات في مشاهدته، فأفلام وأبطال من هذا النوع، يكونون قريبين في العادة من مكاشفة صارخة، تخصهم أو تخص مجتمعاتهم، هذه المكاشفة تغيب عن الفيلم، الذي حمل نفساً إنسانياً مؤثراً، وبدا في روحه قريباً من أفلام سينما «الطريق» الأميركية الشهيرة، عندما يقوم الأبطال بالسفر بحثاً عن ذواتهم. ويقابلون في طريقهم قصصاً أخرى. في هذا الفيلم يأخذ الضابط - بطل الفيلم - جثمان الجندي الشاب في رحلة طويلة، جزء منها بالطائرات، وبعضها بري، الى المدينة الصغيرة. لا يدخل البطل في حوارات طويلة مع الذين يلتقيهم في الطريق. لكن التقاطعات القصيرة كانت مذهلة. في أحد المشاهد ينتظر الضابط ان يتم إنزال النعش الخشبي من الطائرة. عندما يشاهد عمال المطار النعش، يقفون جميعاً دون أي تخطيط مسبق وسط صمت كبير. في مشهد آخر تمنح إحدى المضيفات صليباً من الذهب الى الضابط، كي يضعه مع الجثة في القبر. يصل البطل مع الجثة الى المدينة الصغيرة. يدفن الشاب في جنازة مؤثرة. يمنع الأهل والأصدقاء من مشاهدة الجثة لمرة أخيرة، فالحرب نالت من وجه الشاب، والذي نرى صوره الحقيقة وأفلام فيديو بيتية له، بعد نهاية الفيلم. صور له عندما كان طفلاً وصبياً، وصورة أخيرة له بالبدلة العسكرية. نتذكر عندها ان الميت كان جندياً، وأنه قتل في حرب. فالفيلم، وهذا ما يميزه على أفلام الحرب الأخرى، قلل من هيمنة تفصيلة الحرب، وليبدوا الفيلم في معظم وقته، مأخوذاً بفكرة الموت والفقد، والفلسفة التي تحيطهما. من العسير حقاً فهم الأسباب التي جعلت الجمهور الأميركي يدير ظهره لأفلام الحرب العراقية، فالفشل التجاري الكبير رافقها كلها دون استثناءات. ولن تعتبر تفسيرات مثل عدم رغبة الجمهور الأميركي في مشاهدة حرب ما زالت مستمرة كافية لتفسير هذا التجاهل القاسي للجمهور الأميركي لهذه الأفلام. وربما يحمل فيلم مجازفات دون نية سابقة بعض الأجوبة عن عدم شعبية هذه السينما، ففي مشاهد عديدة، يبدو البطل والجثة التي يرافقها، وكأنهما شان داخلي، يخصه ويخص البدلة العسكرية المطرزة بالأوسمة التي يرتديها، والمؤسسة العسكرية التي ينتمي اليها. في أحد المشاهد يطلب من الضابط ان يخلع نياشينه من اجل المرور عبر البوابة الخاصة بالتفتيش في المطارات. يرتبك الضابط ويرفض بأدب، ويطلب ان يؤخذ الى إحدى الغرف الخاصة، ليفتش هناك بعيداً من أعين المنتظرين خلفه. تجاهل كهذا والذي يواجهه الضابط مرات عدة في الفيلم، لا يدفعه الى حافة الغضب، لكنه يعمق التساؤلات، عن الكثير من الأميركيين الذين لم تعد تهمهم حروب بلدهم وخسائره!