الكويت ليست مجرد (مجلس أمة)، لكن مجلس الأمة هو صنعة كويتية مجردة. في مقالة الأربعاء الماضي تحدثت عن «الخياشيم» العديدة التي يتنفس بها الإنسان الكويتي، ولا تتوافر مجتمعة لغيره من الشعوب المجاورة.. الديوانيات، المقاهي، الصحافة الحرة، و(الخيشوم الأكبر): مجلس الأمة. أكرمتنا مؤسسة الفكر العربي الرائدة بالاستضافة في مؤتمرها الثامن المنعقد في الكويت مطلع هذا الشهر، لكنها زادت في إكرامنا، عفوياً، حين تزامن المؤتمر مع استجوابات مجلس الأمة، التي شغلت كل الكويت ونصف الخليج وبعض العالم العربي. في الكويت تجربة ديموقراطية غير مسبوقة، ليس على مستوى الخليج فحسب، بل وفي العالم العربي كله. ولطالما تمت الإشارة إلى الكويت ولبنان فقط عند الحديث عن التجارب الديموقراطية الحقيقية، خصوصاً بعد تحوّل الجمهوريات العربية إلى (جمهوريات فوز)، كما سبق الإشارة في مقال سابق. لكن هذين النموذجين، الكويتي واللبناني، كانا يتشوهان دوماً بالتجاذبات والتلاعبات.. القبلية هنا والطائفية هناك. من بعد الغزو العراقي فقدت الديموقراطية الكويتية شيئاً من هيبتها، ظن البعض أن استعادة الهيبة تكمن في الاستجوابات. أصبح مجلس الأمة مكاناً للنميمة أكثر منه للتنمية! وطلب الاستجوابات للوزراء يتوالد غالباً من نزعات قبلية منقوعة في حساء الطائفية، أو بالعكس. من خلال أحاديثي مع أصدقاء كويتيين لمست أن الذي ما زال يستمتع بتسالي الاستجوابات هم أعضاء مجلس الأمة، أما الشعب فيبدي التشبع والتذمر منها، لكن عندما يُنتخب أحد هؤلاء المتذمرين من الشعب عضواً في المجلس فإنه يكتشف أخيراً لذة الاستجواب! الاستجواب الأخير، الذي عاصرناه، لم يكن لأي وزير بل كان لرئيس الوزراء. وهو بذلك يكون ذروة الطموح «الاستجوابي» لأعضاء مجلس الأمة. بل هو طموح غير مسبوق للمواطن العربي إذ لم يمر في التاريخ السياسي العربي أن ارتقى رئيس حكومة على منصة الاستجواب والمساءلة. استجواب رئيس الوزراء في شيك صدر باسمه إلى أحد النواب، ينبغي أن يكون قد امتص شهوة النواب في الاستجواب صاعداً فصاعداً.. فهل بعد استجواب رئيس الوزراء من طموح ديموقراطي؟! ما وصل إليه أعضاء الأمة الكويتية من قدرة على المساءلة والشفافية لمسؤوليها لم تصل إليه دول عربية تسمي نفسها جمهوريات أو ديموقراطيات والشعب فيها لا يستطيع مساءلة أو محاسبة وكيل وزارة أو وزير وكالة! كل البلاد فيها فساد.. لكن ليس كل البلاد فيها شفافية ومحاسبة على الفساد. وقد بلغت الديموقراطية في الكويت طموحها (الإجرائي) لكن يبقى أن تلتفت الآن إلى طموحها (التنموي)، حتى لا تصبح الديموقراطية في الكويت غاية وليست وسيلة. ولو استمر نهم الاستجوابات كما هو عليه الآن، فسيكتشف الكويتيون بعد عقود من التجربة الديموقراطية أن مكسبهم الوحيد منها أن نصف الشعب قد استجوب نصف الشعب الآخر! الديموقراطية، إذا كثر التلاعب بها واستغلالها، تحولت إلى ديكتاتورية. كاتب سعودي [email protected]