القيادة تعزي أمير الكويت في وفاة الشيخ دعيج إبراهيم الصباح    القيادة تُعزي رئيس ألمانيا في وفاة الرئيس السابق هورست كولر    أبريل المقبل.. انعقاد النسخة الثانية من مؤتمر مبادرة القدرات البشرية HCI 2025    قوافل مساعدات سعودية جديدة تصل غزة    تعليم الطائف: تطبيق الاختبارات المركزية في المدارس الفصل الدراسي الثالث من العام الحالي    إحباط تهريب 27600 قرص خاضع لتنظيم التداول الطبي في نجران    تنفيذ مشاريع «المجموعة الثانية» من برنامج تطوير محاور الطرق الدائرية والرئيسية في الرياض    الشرع: السعودية حريصة على دعم إرادة الشعب السوري ووحدة وسلامة أراضيه    إعلاميون ل عكاظ: الهجن السعودية تخطف الأضواء عالمياً    «الأمن البيئي»: ضبط 9 مواطنين لنقلهم حطباً محلياً بالقويعية    العيدابي.. عاصمة الشهد التي تجذب مربي النحل في فصل الشتاء    «أحلام»: تأجيل الجزء الثاني من «العناق الأخير»    وزارة الشؤون الإسلامية تختتم معرض القرآن الكريم    مركز «911» يتلقى (2.606.704) اتصالًا خلال شهر يناير    تحت رعاية خادم الحرمين.. جائزة الأميرة صيتة تكرّم الفائزين في 16 فبراير    الفريدي وأبو الحسن يَتلقون التعَازي في إبراهيم    زيارة الشرع.. التأكيد على الشراكة الاستراتيجية بين السعودية وسوريا الجديدة    محافظ حفر الباطن يدشن مؤتمر حفر الباطن الدولي الصحة الريفية    المملكة المتحدة: سعي ترمب لفرض رسوم جمركية يهدد ب "تأثير ضار للغاية" على الاقتصاد العالمي    رحيل محمد بن فهد.. إنسان ورجل دولة باقٍ بذاكرة الزمن    نائب أمير الشرقية يستقبل أعضاء لجنة السلامة المرورية بالمنطقة    رئيس اتحاد التايكوندو: تطوير التحكيم أولوية لتعزيز مكانة اللعبة محليًا ودوليًا"    وزير الخارجية يستقبل وزير خارجية الدنمارك    اختتام بطولة الشطرنج بالظهران وسط حضور ومشاركة من مختلف الدول    البريطاني "بيدكوك" يتوّج بلقب طواف العلا 2025    3 مسببات لحرائق التماس الكهرباء    زيلينسكي يفتح طريق التفاوض مع روسيا    أمير تبوك يواسي أسرتي الطويان والصالح    أمير جازان رعى حفل انطلاق الفعاليات المصاحبة للمعرض الدولي للبن السعودي 2025م    تجمع جازان الصحي يتميز في مبادرة المواساة ويحقق جائزة وزير الصحة في الرعاية الصحية الحديثة    سقوط قتلى.. جيش الاحتلال يواصل جرائمه بالضفة الغربية    مختص : متلازمة الرجل اللطيف عندما تصبح اللطافة عبئًا    غرفة تبوك تعقد ورشة عمل برنامج تنافسية القطاع الصناعي الثلاثاء    بعد إنجازه في دكار... يزيد الراجحي يكتب التاريخ بفوزه الثامن في حائل    أحمد الشرع يصل السعودية.. اليوم    7 مستشفيات سعودية ضمن قائمة "براند فاينانس"    لماذا تُعد الزيارات الدورية للطبيب خلال الحمل ضرورية لصحة الأم والجنين؟    رياح نشطة وأمطار متفرقة على بعض المناطق    إيماموف يحسم مواجهته مع أديسانيا بالضربة القاضية    إعلان المرشحين لجائزة الجمهور لأفضل محتوى رقمي    «بينالي الفنون».. سلسلة غنية تبرز العطاء الفني للحضارة الإسلامية    مهرجان فنون العلا يحتفي بالإرث الغني للخط العربي    إنفاذًا لتوجيه سمو ولي العهد.. إلزام طلاب المدارس الثانوية بالزي الوطني    موكب الشمس والصمود    الأحساء صديقة للطفولة يدعم جمعية درر    الأسرة في القرآن    ذكور وإناث مكة الأكثر طلبا لزيارة الأبناء    ملاجئ آمنة للرجال ضحايا العنف المنزلي    ثغرة تعيد صور WhatsApp المحذوفة    "موانئ" تحصد "جائزة المنصة اللوجستية"    خيط تنظيف الأسنان يحمي القلب    رحيل عالمة مختصة بالمخطوطات العربية    غالب كتبي والأهلي    أمير حائل ونائبه يعزّيان أسرة الشعيفان بوفاة والدهم    تفسير الأحلام والمبشرات    حزين من الشتا    رحل أمير الخير والأخلاق    ممثل رئيس الإمارات يقدم واجب العزاء في وفاة الأمير محمد بن فهد بن عبدالعزيز    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



«الطبل الصفيح» لغونتر غراس ... فن الندم
نشر في الحياة يوم 28 - 04 - 2015

في روايته «الطبل الصفيح» التي صدرت عام 1959، كسر غونتر غراس (1927 - 2015) جدار الصمت عن أسرار وخفايا ما قام به جيل الحرب في ألمانيا، داعياً إلى وقفة مع الذات، وإلى قليل من الصبر والعزاء لممارسة النقد والنقد الذاتي والاعتراف بالخطايا والذنوب للتعلم من الأخطاء التي ارتكبت بحق الشعب والوطن والبدء بلملمة الشمل ومداواة الجراح وتضميدها للتخلص من الكراهية والأحقاد المتراكمة التي سببتها الديكتاتورية والحروب. وتبدأ الخطوة الأولى بنبذ العنف والكراهية والبدء بالمصالحة مع الذات ومراجعتها واعتراف كل من شارك في الجرائم أو اقترف إثماً من الآثام وإعلان الندم، لأن الندم هو الخطوة الأولى والأساسية في طريق المصالحة مع الذات والوعي بها وتحمل المسؤولية. هذا هو مغزى رواية «الطبل الصفيح» التي طبع منها أكثر من ثمانين مليون نسخة وترجمت إلى أكثر لغات العالم الحية ومنها العربية واعتبرها الناقد الألماني الكبير بوخيم كايزر «رواية العصر»، حيث وضع غراس قطيعة بينه وبين الطبقة الوسطى وقيمها ومفاهيمها، فهي «أدب إنذار تقطع الأنفاس» ومغامرة فكرية في تاريخ شعب ووطن، وفي الوقت ذاته مفارقة لكل ما هو حداثي ومعاصر. وهي لاذعة في سخريتها وفنتازيتها يتداخل فيها الواقعي بالخيالي وتتلاعب بالأنا والنحن في تقاطعات متداخلة ومتغيرة باستمرار لتشكل في الأخير سيرة حياة افتراضية في لغة انسيابية غير متكلفة تتراوح بين الشعر والسرد القصصي. وهي في الحقيقة سيرة غراس الذاتية التي ينفيها، التي ترفض الواقع وتتمرد عليه ليهدمه ويفككه ويجعل منه مرآة مشوهة تعكس التحولات الفكرية والاجتماعية والنفسية التي ينظر إليها بمنظار تحليلي نقدي ساخر عبر وعي البطل أو مرآة أوسكار عن صورة غراس المهزوزة.
يتحدث غراس في روايته بصراحة متناهية، ليس عن تاريخ الحرب التي خاضتها ألمانيا ضد العالم والاتهامات التي وجهت إليها فحسب، بل أيضاً عن تاريخه الشخصي وسجله العسكري ومشاركته في الحرب، ويدافع بصلابة وبيقين ثابت عن الاتهامات التي وجهت إليه لانخراطه في منظمة «إس إس»، في شبابه، وهي وحدة النخبة التي اصطفاها هتلر، مؤكداً بإيمان لا تطاوله الشكوك بأنه لم يطلق رصاصة واحدة وأنه دخل مصحة عسكرية تابعة للجيش الأميركي ليتجنب الوقوع في جرائم حرب. لذلك، لم يحاول أن يتهرب من ماضيه وكذلك ماضي ألمانيا الملتبس، داعياً إلى عدم الصمت عن الماضي وإعلان الندم عما اقترف.
في رواية الطبل الصفيح تتشابك الخبرة الطويلة والفنتازيا مع الأحداث السياسية والواقعية السحرية لتقدم لنا صوراً فنية مفارقة للحياة الألمانية - البولندية وتأثيراتها في انشطار الذات والهوية وتجسد في الوقت ذاته مآسي المرحلة النازية وبؤسها، مثلما تعكس وجدان الجيل الألماني الجديد الذي لم يعش الحرب ولم يشعر بعذاباتها، والذي ولد على أخلاق فاصلة بين التورط في الجريمة والبراءة منها. ومع أن غراس كان صغيراً لم يشارك في ما حدث كآخرين، لكنه كان واعياً إلى الحد الذي لا يمكن فيه نكران مسؤوليته أو التنصل منها. فهو صوّر مظاهر العنف والعنف المضاد الذي أثار الكراهية والأحقاد والأنانية وعدم التسامح التي عانى منها الألمان معاناة شديدة وما سببه النظام النازي الشمولي من حروب وموت ودمار لملايين من الناس الأبرياء، وكذلك ما أشعله في صدورهم من حقد وعدوانية.
المهم الذي شدد عليه غراس هو أنه، على رغم كل مخلفات الحروب والكوارث والمآسي المروعة التي حلت بالألمان، إلا أنهم لم يستطيعوا التعبير عن ندمهم وتذمرهم أو الاعتراف بما اقترفت أيديهم من آثام، لأنهم فقدوا الشعور بالندم، الذي حاول «أوسكار» إيقاظه في نفوسهم.
ولد أوسكار قزماً، وإذا كان الأطفال يولدون لينموا ويكبروا وليتمتعوا بطفولتهم وشبابهم ويحلموا مثل الآخرين بكونهم كباراً، فإن أوسكار ولد في عالم غريب وفي زمن عجيب، ومع ذلك فإنه يملك عقلاً كبيراً ومقدرات عجيبة مع إصرار على رفض الواقع. فهو يرفض أن ينمو ويكبر مثل الآخرين كما يرفض اقتفاء طريق الحياة المألوفة حوله، ولأنه لا يريد أن يرى العالم إلا من خلال منظار قزم صغير.
بقي أوسكار قزماً صغيراً، وحصل في اليوم السادس من عمره على الهدية الأولى في حياته هي طبل من الصفيح، سيكون له شأن كبير في المستقبل. وعندما يصل إلى الثلاثين من العمر وتنتهي مرحلة الطفولة يدخل إحدى مصحات الأمراض العقلية لأنه لا يستطيع أن يتحمل عالم الكبار - وأخذ يقرع طبلته بعنف معلناً غضبه على الحاضر واستذكار الماضي القريب ليتداخل عنده الحاضر بالماضي وتتداعى أحلام القزم المسجون في قمم طفل لتتشابك مع الحدث المعيش والمباشر في مزيج وجودي سوريالي وفي مشاهد حسية تخلط فيها رؤى وأخيلة فنتازية مباحة ومحرمة وممزوجة بأحلام وذكريات منسية وكوابيس مفزعة مثيراً عاصفة من الغضب والاستنكار لاعتقاده بانعدام الوعي وضعف المسؤولية والتقصير التاريخي، وهدفه من ذلك هو إعلان «الفضيحة» التي من الممكن أن تولد صراعاً وتثير في الوقت ذاته وعياً جديداً.
يتذكر أوسكار طفولته: «لقد اعتقدت حتى النهاية بأننا على حق»، ولكنه أخذ يراجع نفسه ويستعيد ما حدث وما عاش وشاهد عن كثب. ويتذكر سنوات الرعب والموت، يبوسة الشفاه ومرارة اللسان، فجرائم الرايخ الثالث لا يمكن أن تنسى، هكذا بدأت رحلة العذاب والبحث الدؤوب عن الذات والآخر. وتتدافع أمامه ذكريات طفولته البائسة، فهو لم يكن سوى طفل صغير، مجرد طفل مشرد يحمل طبلاً صغيراً يدور بين طاولات المقاهي. ولكن، كان للطفل الصغير عالمه الخاص أيضاً يتجاهل فيه عالم الكبار، أنه عالم تنبثق منه الأفكار وتنبجس الخواطر وتتوارد الذكريات المبعثرة في الذاكرة لتتراكم في وعي اللاوعي لينساها في زحمة مجتمع متغير سريع الحركة ما زالت آفاقه غير واضحة.
والقزم الصغير ذكي ومرهف الحس ويريد أن يعيش ولو على هامش الحياة. يريد أن يقرأ ويعقل ويتعرف إلى كل شيء وألا يفوته أي شيء، ولأنه يملك طبلاً فإنه يستطيع أن يقرع به الواقع فيحطم زجاج النوافذ ويخترق الجدران وليبرهن أنه العاقل الوحيد والمعافى في عالم من المظاهر المزيفة المملوءة بالكذب والنفاق والجريمة والخداع. في هذا المجتمع الجديد الذي يحلم بالرفاه ويندفع للبناء ويسعى إلى الثراء وإشباع المتع المادية ينسى المرء في زحمة اللهاث المحموم ذاته وينفيها من دائرة وعيه. غير أن الماضي يبقى كابوساً ثقيلاً يؤرقه عندما يتذكر أحداثه المروعة ويصبح كل شيء بلا معنى ولا طعم.
يقول أوسكار القزم: «وحين يواجه هؤلاء الدم والموت والدمار، يدركون فجأة أنهم لم يكونوا مجرد شهود وضحايا لتاريخ غريب وأحداث مروعة فحسب، وإنما كانوا أيضاً شركاء في الجريمة».
وخلال تجواله في الشوارع والأسواق يعثر على عمل في مطعم ليلي اسمه «سرداب البصل» يقدم لزبائنه كل ليلة صحناً من البصل يقشره الطّهاة حتى تدمع أعينهم. ففي هذا الزمن الرديء أصبح من الصعب أن تدمع العيون ندماً على ما حدث من موت ودمار وكوارث وويلات، لذا سمي قرننا هذا «القرن الناشف الدموع»، لأن البعض منهم لا يستطيع أن يذرف الدمع أبداً، خصوصاً خلال السنوات الأخيرة، هكذا «يحقق البصل ما تعجز عنه مأساة العالم، إذ يساعد الناس على البكاء وذرف الدموع».


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.