كما أن رئاسة باراك أوباما للولايات المتحدة تشكل على أكثر من صعيد عودة إلى الأجواء التي سادت البلاد في مطلع التسعينات، مع تولي الرئيس الأسبق بيل كلينتون مهام المنصب، وذلك من حيث الشروع ببرامج واسعة النطاق تنقل الولاياتالمتحدة من الإطار المحافظ الذي تكرس في المرحلة السابقة إلى صيغة تقدمية جديدة، فإن أجواء المحافظين الأميركيين تشهد بدورها استعادة للشعارات والمخاضات التي عاشتها الحركة المحافظة في مطلع التسعينات. طبعاً الفروق عديدة ومهمة، والخلفية الدولية للوضعين مختلفة، ولكن القاسم المشترك بينهما هو الحديث عن «ثورة محافظة». وإذا كانت ثورة التسعينات قد حققت بالفعل نجاحاً قاطعاً، فإن الوسط المحافظ في الولاياتالمتحدة اليوم يريد تكرار التجربة، وإن كانت لا تزال في مطلعها. لا شك أن الحزب الجمهوري اليوم يفتقد الوجه القيادي القادر على التحفيز. فمرشحه في الانتخابات الماضية، جون ماكين، متقدم بالسن، بل هو أثبت من خلال فشله الانتخابي محدودية جاذبيته، وحاكمة ولاية ألاسكا سارا بايلن، والتي اختارها ماكين مرشحة لمنصب نائب الرئيس، وهي التي أضافت زخماً نجومياً لحملته الانتخابية، قد بلغت أقصى آفاق قدرتها على التعبئة والتأثير دون أن تشكل بديلاً قادراً على قيادة الحزب. أما جملة حكام الولايات الحاليين والسابقين، والذين يرى فيهم البعض الوعود، فإن أياً منهم لم يتمكن بعد من البروز بشكل مقنع حتى لمحازبيه. غير أن ثمة عاملين يدفعان باتجاه «ثورة محافظة» جديدة. أحدهما هو حكماً حجم الالتزامات المالية التي أقرّتها حكومة الرئيس أوباما للخروج من الأزمة الاقتصادية أولاً، ولوضع مجموعة واسعة من المشاريع المنصبة في إطار الرؤية التقدمية موضع التنفيذ ثانياً. وفي حين أن هذه الالتزامات قد جاءت مصحوبة بتعهد علني من الرئيس أوباما بأن العبء الضريبي لن يرتفع بل سوف ينخفض بالنسبة للغالبية الساحقة في الولاياتالمتحدة، فإن ردة الفعل المحافظة تركزت على التشكيك بمعقولية هذا الطرح، إذ ليس من تصور، مهما كان متفائلاً، يسمح بافتراض سبيل إلى اجتراح المبالغ الهائلة التي تتطلبها هذه الالتزامات دون ترجمتها أعباء ضريبية. والسبيل الوحيد للرئيس أوباما للوفاء بوعده، وفق التحليل المحافظ، هو تأجيل تحميل المجتمع الأميركي مسؤولية هذا الإنفاق الهائل، والسماح بتفاقم الدين العام، مع ما يشكله ذلك من استدانة مجحفة من الجيل المقبل. وبالفعل، فإن حملة الاعتراضات على العبء الضريبي، والتي غالباً ما تشهدها البلاد يوم الخامس عشر من نيسان من كل عام (وهو تاريخ استحقاق ضريبة الدخل السنوية)، قد جاءت مدوية هذا العام، فشهدت معظم المدن الكبرى في الولاياتالمتحدة مظاهرات (رمزية في غالبها)، إلا أن مضمونها لم يكن العبء الضريبي القائم اليوم بقدر ما كان الخوف من نتائج سياسة الإنفاق الحالية على الدين العام والصحة الاقتصادية للجيل المقبل. ويشتكي بعض الكتاب المحافظين من الإضرار بالصيغة المبدئية للنظام السياسي في الولاياتالمتحدة والناتج عن خطوات الحكومة الحالية. ذلك أن الرئيس أوباما قد تحدث عن إصلاحات ضريبية باتجاه تحقيق «الإنصاف» الاقتصادي والاجتماعي، تؤدي فعلياً إلى إعفاء نصف المجتمع الأميركي من أية مساهمة ضريبية، وفق الحسابات المحافظة، وتلقي معظم العبء الضريبي على الشريحة العليا من الهرم الاجتماعي الاقتصادي. وهذا التوجه، كما يراه المحافظون، على استحالة تحقيقه للنتائج المرجوة (ذلك أن كامل دخل الشريحة العليا لا يكفي للتعويض عن المساهمات المعفاة)، يشكل طرحاً شعبوياً تعبوياً يهدف إلى ضمان الولاء السياسي للأوساط المستفيدة من خلال إضرام صدام طبقي، في حين أنه يقوّض النشاط الاقتصادي وينسف الأساس المبدئي الذي يربط بين المشاركة في العبء الضريبي والتمثيل السياسي. أما العامل الثاني الذي يحفّز ثورة محافظة جديدة فهو توالي الهفوات والأخطاء من الرئاسة الجديدة. وإذا كان طاقم الرئيس أوباما، وأوباما نفسه، لا يزال في طور التأقلم مع المسؤوليات الجديدة، مع ما يستتبع ذلك حكماً من زلّات، فإن المتابعين المحافظين لأدائه قد تمكنوا بالفعل من اصطياد العديد من الأخطاء المثيرة للسخط في بعض الأوساط. وآخر صيدهم تقرير من إعداد وزارة الأمن الداخلي يترصد مخاطر التطرف لدى التيارات «اليمينية». والواقع أن هذا التقرير المخصص للاستعمالات الرسمية، والذي جرى تسريبه للإعلام، لا يختلف في مضمونه عن غيره من التقارير التي تعدها الجهات الأمنية المختلفة على المستوى الاتحادي وعلى مستوى الولايات. إلا أن اقتصاره على «اليمين»، لاندراجه ضمن سلسلة تتطرق لسائر التيارات (اليسارية والإسلامية)، واستعماله لصراحة خالية من التنميق الذي اصطلحت الثقافة الأميركية على التزامه في الخطاب العام، أتاح المجال للمعلقين المحافظين لاعتباره نموذجاً لتطفل من الحكومة الجديدة على الحريات العامة ولخضوع أولوياتها للاعتبارات السياسية. وفي حين أن التقرير يتحدث عن احتمال عودة البروز لظاهرة الميليشيات المسلحة التي كانت قد عاشتها البلاد في مطلع التسعينات، وذلك نتيجة لبعض الأوضاع الاقتصادية والثقافية، فإن الضوضاء التي أثيرت حوله من شأنها، بدورها، التشجيع على هذه العودة لإصرارها على تصوير تصادمي للعلاقة بين الدولة والمجتمع. ولا تزال الفترة الزمنية لاختبار مدى عمق «الثورة المحافظة» الجديدة طويلة نسبياً، فالاستحقاق الانتخابي المقبل هو في تشرين الثاني (نوفمبر) 2010. وقدرة هذه الثورة على التعبئة تبقى مقيدة بدرجة النجاح أو الفشل المنسوب إلى الرئيس أوباما في المرحلة المقبلة ولا سيما في معالجة الأزمة الاقتصادية. غير أن هذه الثورة تفتقد مقوماً جوهرياً كان قد تحقق لنظيرتها قبل أقل من عقدين، وهو الطرح الممنهج البديل. فلا يكفي المحافظين الاعتراض على ما هو قائم دون التقدم بخطة لحل يسمح للمواطن الأميركي بالاطمئنان إلى مستقبل بلاده. فإلى أن تجد هذه الثورة حلولها، وقيادتها، فإنها محكومة بأن تكون حركة اعتراضية وحسب.