دوي قذائف المدفعية يصم «الآذان»، وأصوات قصف الطائرات الحربية تسبب جلبة أكثر من تلك التي يولدها هدير المحركات النفاثة. وعلى رغم أن أعمدة الدخان «البيضاء» تنصهر مع نظيرتها «السوداء» ليشكلا ثمرة تدمير أحد أوكار مجموعات المتسللين المسلحين في الجبال الحدودية الجنوبية، يسبح الدخان «الملون» في سماء زرقاء ملبدة بالغيوم سقفت بألسنة النيران «الحمراء» المتعالية من ذات الوكر «المقصوف»، بعدما استحال «فرناً» شوى ثلة من المرتزقة انتشرت رائحتهم «النتنة» في أرجاء المكان، لتتعالى أصوات التكبير!. هكذا يبدو المشهد في الشريط الحدودي الجنوبي، حيث بسط الجيش السعودي نفوذه، والمدفعية تستمر في دك معاقل العدو، وكذلك حال القوات البرية والجوية التي ما انفكت تصد أي محاولة للتسلل إلى أرض الوطن. وعلى رغم الرائحة التي فاحت استحال معها طعم «المانجو» الذي تشكل المنطقة الحدودية أكبر بيئة خصبة لزراعته في جزيرة العرب، «مراً» في أفواه من دفعتهم الظروف الحدودية الطارئة إلى المرابطة هنا لأسباب عدة، والذين ما فتئوا يستثمرون لحظات الهدوء النسبي الذي يخيم على الحدود بين الفينة والأخرى، لتناسي أوضاعهم بالغوص في أعماق تبعات كارثة سيول جدة المأساوية، التي ولدها الأربعاء «الأسود». وخلف عدد من الحواجز الترابية، أعدت لتكون دروعاً تحمي مجموعات متفرقة من الجنود السعوديين الذين يذودون عن حدود الوطن، ويضربون بيد من حديد كل محاولات فلول المجموعات المسلحة الساعية إلى التسلل داخل الأراضي السعودية، وراء تلك الحواجز جلس الجندي أول علي دراج برفقة ثلة من زملائه ليستريحوا قليلاً بعد انتهاء نوبتهم، ولاكت ألسنة جمع «المستريحين» الكثير من الأحاديث المنوعة، ولكن مداخلة دراج مثّلت منعطفاً أدار دفة الحديث صوب عروس البحر الأحمر، «هاتفت أخي ليل البارحة، تخيلوا أن جدة «الغريقة» باتت مهددة بالفتك في أي لحظة، التلوث في ازدياد، والطرق تكسرت، وكل الجهود المبذولة لم تحل أحجية اختفاء عشرات المفقودين، كل هذا وبحيرة «المسك» تنتظر أن تفتك بما تبقى من العروس الساحلية عند أول فرصة، أتعلمون أن لجنة تقصي الحقائق استجوبت أسماء «ثقيلة»، وأن التكهنات تكشف عن احتمال مثول أسماء «أثقل» للاستجواب؟». وتجلى القلق في حديث العريف بحني عسيري، حين التقط طرف الحديث مقاطعاً زميله: «لم أهاتف عائلتي اليوم، أحمد الله أن تلك الكارثة لم تنل منهم، إلا أنني لازلت قلقاً عليهم، فآخر ما سمعته أن الأمطار يمكن أن تنهمر بغزارة قريباً». وهنا يقاطعه دراج «أشرْ عليهم بالانتقال إلى مكةالمكرمة، وإن لم يكن لك أقارب هناك من الأسلم أن يستأجروا شقة مفروشة حتى تعود إليهم، أو تنقشع هذه الأزمة». وظل الحديث منحصراً في إطار العروس ومعاناتها، وتعددت المداخلات وكثرت التأويلات، وتنامت المخاوف التي بددها إعلان قائد السرية حلول وقت «التكميل»، تلاه تغير لامس «المستلمين» في الجبهة. ولم يختلف الحال كثيراً في مركز إيواء النازحين في أحد المسارحة، حيث اعتاد مجموعة من الرجال عصر أمس في الجلوس على سجادة «خضراء» مستطيلة فرشت على رمال «ناعمة» تتوسط مئات الخيام، يجلسون ليستمعوا إلى مهدي هزازي الذي دأب على احتضان صحيفته في كل يوم قبل أن يبدأ قراءة ما تتضمنه من أنباء وأخبار تتعلق بالوضع في المنطقة، ليعرج بعدها على مستجدات أزمة جدة، لتبدأ سلسلة من التأويلات والتحليلات والدعوات تتداول داخل محيط تلك السجادة التي تزاحم فيها ثلة من الأميين حول مهدي. ويمكن الركون إلى استنتاجات تؤكد أن «المهزلة» التي سببت كارثة جدة، والتي لاتزال تداعياتها تهدد مستقبل سكانها، ساهمت في تناسي الأجواء «المشحونة» على الشريط الحدودي الرابط بين السعودية واليمن، والانتقال إلى تفاصيل ومستجدات الأوضاع في أكبر الثغور السعودية على ساحل البحر الأحمر ... «أمراً ممكناً».