المتتبع لمسيرة الاقتصاد السعودي على مدى فترة زمنية متوسطة لا بد من ان يسترعي انتباهه أمران، الأول أن كل المشاريع التي تم انجازها أو في طور التنفيذ، جاءت بمبادرات فردية وشخصية أكثر منها نتاج خطة مرسومة ومحددة لما يحتاجه الاقتصاد من مشاريع. أما الأمر الثاني فهو أن الأجهزة الحكومية وشبه الحكومية تتصرف باستقلالية تامة عن بعضها البعض، بل إن هذه الأجهزة تحولت إلى «جزر» منفردة، تتصرف كل جهة بما تراه، وتتخذ خطواتها بحسب نظرتها فقط، من دون مشورة أو تنسيق أو تعاون مع الجهات الأخرى التي ربما تستفيد أو تتضرر من تلك الخطوة. ولا اتجاوز الحقيقة إذا ما قلت إن مسؤولينا ووزراءنا لا يلتقون مع بعضهم البعض إلا في وزارة المالية طلباً للمخصص المعلن لوزاراتهم في موازنة الدولة. وبضم أولاً إلى ثانياً، كانت النتيجة المتوقعة هي «العشوائية». عشوائية في التخطيط، وعشوائية في ترتيب الأولويات، وعشوائية في التنفيذ، صاحبها ضعف الرقابة وفساد الذمم، فكانت «كارثة» جدة، هي النتيجة الحتمية لسوء التخطيط وسوء ترتيب الأولويات وسوء التنفيذ، ومضافاً إلى المساوئ الثلاثة ما هو أدهى وأكبر، وهو فساد الذمم وضعف الرقابة والمحاسبة. وليت «الكارثة» تكون بداية كشف الحساب والمحاسبة لمشاريع صرفت لها مبالغ ضخمة ولم تنفذ، أو نفذت بأقل من المواصفات، أو نقلت مخصصاتها إلى مشاريع أقل ضرورة وأهمية لسبب أو لآخر. والسؤال الذي لا بد من طرحه حالياً هو: كيف يمكن القضاء على هذه السلوكيات؟ إن القضاء على «العشوائية» و«الانفرادية» في اتخاذ القرارات، وما يتبعهما من سهولة «التغيير» و«التلاعب» و«الفساد» يتطلب ايجاد جهة تشرف على إدارة الاقتصاد الكلي وتنسق الجهود وتدعم المناسب من المشاريع وتوقف تنفيذ تلك التي لا تتطلبها الحاجة، وتمنع نقل المخصصات من مشروع إلى آخر من دون سبب مقنع. ولعل المجلس الاقتصادي الأعلى الذي يترأسه خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز، ويترأس لجنته الدائمة وزير الخارجية الأمير سعود الفيصل، ويضم في عضويته بعض أهم المسؤولين، هو الأكثر تأهيلاً حالياً للعب هذا الدور. فعمل المجلس الذي يقتصر حالياً على «التخصيص»، يجب أن يوسع ليشمل الادارة والتخطيط والمتابعة والمراقبة والمحاسبة، في ما يختص بالاقتصاد الكلي. ولا يعني ذلك أن يقوم المجلس بعمل وزارة التخطيط أو غيرها من الجهات، وإنما يقتصر تخطيط المجلس على الأهداف العامة والكبيرة للتنمية، وتوجيه المشاريع تجاه القطاعات التي يراد دعمها وتنميتها (زراعية أو صناعية أو خدمية أو تجارية)، ومن ثم تقوم الجهات الحكومية برفع مشاريعها التي تزمع تنفيذها للمجلس لمراجعتها والتأكد من أولويتها، وانها تصب في خانة القطاعات المراد تنميتها والتركيز عليها. ثم يأتي دور لجنة المتابعة والمراقبة في المجلس، لمتابعة تنفيذ المشاريع التي حصلت على موافقة المجلس، والتأكد من سير تنفيذها بحسب المواصفات المقررة، وفي المدة الزمنية المقترحة لتنفيذ المشروع، والرفع لإدارة المجلس أولاً بأول عن أية معوقات لتجتمع إدارة المجلس وتتخذ حلاً سريعاً للمشكلة. إن تطوير المجلس ودعمه بالكفاءات، وتوسيع صلاحياته، وإعطاء إدارته مزيداً من الحرية لتتحرك بديناميكية وسرعة، سيجعل الأمور تحت «الكونترول»، ويعمل على «فلترة» المشاريع لمصلحة الأهم فالمهم منها، ويكون حلقة وصل بين منفذي المشاريع والقيادة العليا، ويعمل على عدالة توزيع المشاريع على مناطق المملكة المختلفة، ويتابع تنفيذ قرارات مجلس الوزراء التي لا تنفذ أو يتم تأخير تنفيذها. والأهم انه سيقضي أو يحد من الفساد الذي نشأ نتيجة القرارات الفردية لاشخاص كانت «حصتهم» أو «بلدتهم» أو «منطقتهم» هي الأولى، ومن ثم اختيار المشروع الذي يخدم هذه «الأولوية» من دون اعتبار لأهمية أو حيوية المشروع نفسه. * اقتصادي سعودي - بريطانيا www.rubbian.com