لاتزال «العروس» تكفكف دموعها، وترتدي حلة الحداد، القاتمة السواد، إثر ما أصابها في الثامن من ذي الحجة الجاري، لاسيما وأن أعداد أبنائها الذين قضوا في الكارثة يزداد يوماً بعد آخر فضلاً عن دخول العشرات من السكان ضمن قائمة المفقودين، الذين لا يعرف عن مصيرهم شيء حتى اللحظة، فيما انتشرت رائحة الموت في أجزاء واسعة منها، لم تعد جدة تلك المدينة الحيوية التي تأسر كل من وطئ بقدميه أرضها. وعلى رغم مضى أكثر من 10 أيام على الكارثة، إلا أن الوجوم لايزال يرتسم على السكان، وتخيم الكآبة على شوارعها التي كانت إلى ما قبل الفاجعة تضج فرحاً وبهجة، والقلق والتوجس يسري في أروقتها مع تبلد السماء بالغيوم في مشروع لهطول المطر، الذي استحال ذكره رعباً، بعد أن كان مدعاة للخير والتفاؤل، الكآبة والأحزان تسللت ليس إلى ذوي الضحايا أو من خسر أمراً مادياً فقط، بل امتدت لتنال أيضاً من الذين خرجوا من الكارثة من دون خسائر، فكل ما يحيط بهم يدعو للألم والحسرة، والخوف من المستقبل المجهول. في أحد شوارع جدة يمشي أبو سعود بوجه شاحب مطأطئ الرأس، يعتقد من يراه لأول وهلة أنه يتحدث عبر هاتفه الجوال، بيد أن من يقترب منه يكتشف أنه يتمتم مع نفسه بصوت مسموع، رافعاً ثوبه الأبيض النظيف، وهو يمشي بحذر وكأنه يمخر عباب نهر أو بركة ماء، ويخشى على نقاء ثوبه من أن يتسخ بالطين والوحل. أما سعيد الموظف في أحد المستشفيات الحكومية في المدينةالمنورة فلايزال مذهولاً باتصال أخيه الذي ظل يستنجد من السيل وهو داخل سيارته، حتى انقطع الاتصال بموته داخل السيارة من دون أن يستطع أحد نجدته. فيما وقف أرشد حسين البائع الباكستاني في إحدى البقالات، وهو يصف باكياً بأعجمية مُعرّبة أمام أصدقائه، طريقة غرق أخيه وسط السيل، وكيف ارتطمت به إحدى السيارات التي جرفها الطوفان، وأعاقت عملية إنقاذه. وجلس ثلاثة أصدقاء بعيون دامعة أمام موقع ال «يوتيوب» يتابعون عملية انتشال جثتي طفلة وسيدة من حفرة الموت التي قيل أنها ابتلعت نحو 10 أشخاص، ولم يجدوا سوى الدعاء للشهداء ومحاولة كفكفة دموعهم التي لا تنزل سوى لأمر جلل «على حد قول أحدهم». الإيمان ودعم الدولة يخففان «الكارثة» حذّر استشاري الطب النفسي الدكتور أحمد حافظ من حدوث أمراض نفسية للمنكوبين جراء الحادثة، مشيراً إلى أن الإحساس بالخوف والهلع والفزع من سقوط الأمطار ثانيةً قد يؤدي إلى أمراض نفسية تستدعي العلاج النفسي والدوائي. وأوضح أن هناك ردود فعل خطيرة قد تحصل للمتضررين منها اضطراب رد الفعل النفسي، إذ يتأثر الشخص بشكل مبالغ فيه، وهناك اضطراب التأقلم فيصبح لدى الشخص صعوبة في التأقلم والتكيف في حياته بالوضع الجديد بعد هدوء الكارثة جراء فقد أحد من ذويه. ولفت إلى أن الإنسان قد يصاب باضطرابات الصدمات مابعد الكرب «وهذه الحال تظهر على الشخص بعد الصدمة فيعود يرى المنظر من جديد كالفلاش ويعيشه على مستوى التفكير والسلوك والمشاعر والوجدان». وشدد حافظ على أهمية علاج هذه الأعراض التي تظهر على الإنسان خشية تفاقمها، مشيراً إلى أن مآسي فقد الممتلكات والأرواح قد يصيب المتضررين بما يسمى ب «الإنكار» وهو عدم تصديق ما حدث لهم مباغتة. وأشار إلى أن ذلك يؤدي إلى القلق والتوتر والخوف لما في ذلك تهديد مباشر للحياة، موضحاً أن من أعراضها ضعف الشهية وقلة النوم والبرودة والتنميل في أنحاء الجسد ورعشة في الأطراف أو خفقان وسرعة في ضربات القلب. وذكر من الأعراض أيضاً حالات هستيرية قد يصاب بها الضحايا، لعدم تصديق ماحدث، مشيراً إلى أنه بعد التيقن بحدوث المشكلة يصل الشخص إلى مرحلة الاكتئاب والشعور بعدم القيمة والحزن والأسى. وقال حافظ: «قد تُزامن هذه المراحل الثلاث وقت حدوث المشكلة وتصيب جميع من مروا بها وتزول بزوالها لديهم، إلا إذا تدهورت الحال النفسية وأصبح هناك نوع من أنواع الاضطراب النفسي والتي تستدعي العلاج النفسي والدوائي». مفيداً أن العلاج يبدأ أولاً من الرضا والإيمان بقضاء الله وقدره، كما أن الدعم المادي والمعنوي من الرجل الأول في الدولة يكون له أثر كبير في تهدئة النفوس وتطمينها. وأضاف: «كما أن الدعم الاجتماعي له دور كبير في التخفيف عن كاهل الأسر المنكوبة، ويأتي التفريغ بالحديث والكلام مهم جداً للشخص المتضرر بأن يحكي ما رآه أو أن يقص مدى المعاناة التي يعيشها من الفقد سواء في الممتلكات أو في الأرواح».