حيال تداعيات المباراة بين مصر والجزائر، كثيراً ما كان يخطر ببالي كلما قرأت خبراً أو تحليلاً جديداً حول هذه الأزمة الحاصلة بين البلدين، رسمياً وشعبياً؛ كتابا حازم صاغيّة، «أول العروبة» و «وداع العروبة». الصراع الذي بدأ بالتبلور منذ ما قبل المباراة الأخيرة الحاسمة بين فريقي البلدين، أخذ يقاتل على أول العروبة من خلال الشعارات والاتهامات المتبادلة.. في الوقت الذي دل فيه ما حصل على الحالة الثانية...وداع العروبة. أما «أول العروبة» المقصودة هنا، فهي فاعلية إعلامية وثقافية، شعبوية ونخبوية أيضاً، وسياسية وأخلاقية، مضمونها يتجلى في استحضار كل المكارم القومية ومشاعر التضحية والإيثار والأبوة والكرامة من قبل هذا الطرف العربي أو ذاك عند اشتعال الخصومة بينه وبين طرف عربي آخر. بمعنى آخر، «أول العروبة» هنا مثل «أول الوطنية» (السورية والمصرية...) التي تحتكرها الأنظمة السياسية في وجه معارضاتها، إنها مجال للشرعية وإخراج الآخر من الملة الوطنية. وبهذا المعنى، فإن حمية «أول العروبة» لا تحضر مثلاً في الأزمات الحاصلة بين هذا البلد وبين بلد أجنبي، لأنها ليست ذات معنى بالنسبة إلى الطرف الأجنبي. تجلت «أم العروبة المصرية» في تذكير إعلام مصر، للعرب عموماً وللجزائريين خصوصاً، أن مصر هي أم العرب، وهي التي قدمت لهم الكثير واحتضنت قضاياهم على مر التاريخ. وهي لم تبارح تذكير ناكري الجميل الجزائريين عما قدمته مصر لهم أثناء ثورتهم، حيث أنها الدولة التي كانت أكثر التصاقاً بهذه الثورة، ولها المساهمة الأكبر في تحقيق انتصارها. وهو ما يتنكر له الجزائريون، الذين سيغدون وهذه الحال، بربراً بالمعنى الثقافي والأخلاقي، وهمجاً وإرهابيين، وخارج العروبة الممثلة بمصر وتاريخها. «أول العروبة» الجزائرية كانت بداية من قبيل «سجل أنا عربي»، والدليل هو ذلك الهجوم عليها من قبل دولة فتحت أبوابها لإسرائيل عدو العروبة الأول، ويحكى أن مشجعين للفريق الجزائري رفعوا في مدرج الملعب السوداني لافتة مكتوب عليها «مصرائيل». وإن لم تتنكر بعض النخب الجزائرية التي استدرجت إلى السجال، لدور مصر في تحريرها، فإنها أرجعت ذلك إلى زمن عبد الناصر وإلى شخصه وحسب، ولذلك فلن يتوانى البعض من وسم مصريي اليوم بأنهم «أعداء العروبة والإسلام» وعبيد الفراعنة، وتحميلهم جريرة ما حصل في بلاد العرب من كوارث ابتداءً من فلسطين إلى العراق مروراً بالصومال وتفسخ السودان، ورجوعاً إلى الحصار الأميركي على ليبيا القذافي الذي استمر سنوات. إن ما سبق، إذ يظهر وكأنه صراع على «أول العروبة»، إلا أنه في الحقيقة عكس ذلك، وكأن فصلاً جديداً من «وداع العروبة» يكتب الآن. لقد سبق لصاغية في كتابه أن التمس العديد من المظاهر الوداعية للعروبة في الاقتصاد واللغة والثقافة والدول الوطنية التي ستغدو هي مرجعية العروبة لا العكس. وهو إن كان ينتظر تأبين العروبة، فإن هذا التأبين، كما يبدو، قد أخذ يسفر عن نفسه منذ سنوات، وخصوصاً بعد أحداث 11 أيلول واحتلال العراق، حيث النزاعات العربية - العربية ستصل إلى حدود لا مثيل لها، وستطغى على التناقض الرئيسي العروبي مع الاستعمار والصهيونية. وهو ما سترثه وتحتكره الإسلامية المجاهدة والممانعة، وتنسبه إلى نفسها، وإن كانت تعيش هي الأخرى صراعاً على «أول الإسلام» بين مكوناتها، بل وحتى مع العروبة نفسها منذ أن أخذت هذه الأخيرة تستعير من الإسلام مفردات شرعيتها في مواجهة الإسلام السياسي المعارض لها، وفي وجه الغرب أيضاً. الصراع الأخير بين مصر والجزائر على «أول العروبة»، هو صراع يجد عنوانه الحقيقي في شعارات مثل «مصر أولاً» و «الجزائر أولاً»، وكذلك في كل النزاعات العربية - العربية التي تنكرت في قناع العروبة، بينما كانت في حقيقتها حول «لبنان أولاً» و «سورية أولاً» و«السعودية أولاً» و «العراق أولاً»...الخ. إن هذه ال «أولاً» التي أخذت تفصح عن نفسها مؤخراً دون وجل كمؤشر إلى «وداع العروبة»، ليست واقعة سلطوية فقط كما يتقول بعضٌ شعبوي؛ بل إن جمهور العروبة المفترض، أي الشعوب العربية بلغة أكثر عقائدية، يتوزع بين من يؤكد على هذه ال «أولاً» الوطنية، ومن ينتمي إلى «الأمة الإسلامية» التي لا تقل افتراضاً وغموضاً عن «الأمة العربية»؛ وحتى كرة القدم التي كانت توحد إلى حد ما هذه الجماهير عاطفياً عندما يكون الخصم أجنبياً، أخذت تتراجع لمصلحة «وطنية كروية» (وهو تعبير استعمل في السجال المصري - الجزائري الأخير) تنتعش إلى حدود الانتقام إذا كان الخصم عربياً. ودفعاً لأي التباس، لا يعلن كاتب هذه السطور موت العروبة ب «ال» التعريف، ولذلك سيكون من الأنجع من وجهة نظره الكلام عن «وداع عروبة» ما، هي هذه العروبة التي طالت شيخوختها وأثقلت على مجتمعاتها على كل الأصعدة. ولكن هل من «عروبة» بديل؟ هذا لا يلوح في الأفق حتى الآن. * كاتب سوري