لطالما كانت «التعليلات العربية» (السهرات والاجتماعات العائلية) تقام في الخيام حيث يتجمع أبناء القبيلة أو العشيرة الواحدة يستمعون للحكايات، يتناقشون في شؤونهم الخاصة فيعرضون مشاكلهم ويتشاركون في حلها، ثم يتسامرون ويطربون لأشعار تغنى على الربابة. اليوم عاد شيء من تلك السهرات مع مبادرة «تعليلة» التي انطلقت في العاصمة الأردنية عمان ونجحت في أن تعيد إحياء الطقوس نفسها ولكن بطابع عصري. أما الدعوة فلا تقتصر على أبناء العائلة الواحدة بل هي مفتوحة للجميع ومن دون مقابل. وتشتمل سهرة التعليلة الحديثة على فقرات فنية مختلفة كالعزف على الغيتار والعود والشعر والرسم والغناء الذي يتراوح بين تقليدي و «راب»، إضافة الى تمارين اليوغا وعروض مسرحيات وأفلام قصيرة وغيرها من الفنون كما أن هناك متسعاً من الوقت لعرض تجارب شخصية ومشاركة الآخر بها. «تعال تعلل عندنا» دعوة حضور أرسلتها روان الزين صاحبة المبادرة، للأصدقاء عبر مواقع إلكترونية. وتقول روان عن مباردتها التي باتت طقساً شهرياً يقام في محترف الرمال: «نجتمع هناك مع الأصدقاء ونتبادل الأفكار ونكشف عن مواهبنا واهتماماتنا وما يحبونه من عروض فنية أو أدبية أو أي شيء يودون مشاركته مع الغير». والمشاركة بفقرات التعليلة ليست حكراً على المحترفين، فالمنصة مفتوحة أمام كل من تخطر في باله فكرة ويريد أن يشاركه الجميع في بلورتها، كما أن الفرصة متاحة أمام المواهب الفنية الشابة. ربيع زريقات شاب عشريني اختار الناي (الشبّابَة) رفيقاً له حين تضيق به الدنيا. عزفه يحاكي حزنه وأحياناً فرحه، ولكن بقيت آلة العزف هذه حبيسة جدران غرفته وبقيت ألحانه حكراً على عائلته مدة 4 سنوات إلى أن شارك في أولى فقرات انطلاق «التعلية». مشاركته التي نالت إعجاب الحضور حمسته لتقديم الجديد والتعمق في فنون العزف واختيار الألحان. وبعد أن كانت موهبته في العزف مرهونة بالارتباط في فرقة عزف والمرور في تجارب لا تخلو من تقييم المختصين والنقاد، أصبح الإعلان عن موهبة من خلال المبادرة فرصة تدفعه للسير قُدماً وبخطى ثابته. واليوم بات هناك جمهور يتطلع للاستماع لما يقدمه ربيع من مقطوعات موسيقية وينتظرون منه الجديد، وساهمت المبادرة من خلال موقعها على مواقع FaceBook و Twitter و youtube في عرض أعمال المشاركين الفنية وهو ما حفز ربيع وجعله يوقن بأن «لا شيء مستحيلاً». ويجد العشريني حسن داموني، وهو أحد المشاركين، أن «المبادرة أتاحت الفرصة أمام الجميع للإفصاح عن مواهبهم والتعبير عن أفكارهم بالطريقة التي يختارونها من دون رقيب ينتقد أو مشاهد متملل». وقف حسن أمام الجمهور ثلاث مرات في إحداها كان شاعراً، وأخرى حكواتياً، وأكثر ما نال استحسان الحضور عرض قدمه تضمن رسماً للوحات تعبيرية على أنغام موسيقية خلال 8 دقائق. واستطاع حسن في هذا الوقت القليل أن يشد الأنظار بحركات ريشة الرسم وهي تحط بما تحمله من ألوان على اللوحة. فكرة الرسم بهذه الطريقة كانت قد تخمرت في رأسه منذ مدة ولكن كان يصعب على الشاب البدء بالرسم في شوارع المدينة أمام المارة، إلا أن مشاركته في أمسيات التعليلة جعلته يفكر في إقامة معرض فني بعد أن لقي تشجيعاً. ويقول حسن: «في الأمسيات التي نجتمع فيها مع الأصدقاء لنستعرض مواهبنا تختفي الحواجز ولا نشعر بأن هناك من يترصد أخطاءنا، بل نلقى كل دعم وتشجيع للمضي قدماً في مشاريعنا. الآن نحن فخورون بأننا شباب قادرون على الإبداع والتغيير من دون أن ندخل في التعقيدات». وتقول روان أن «المبادرة التي انطلقت في شهر نيسان (أبريل) 2009 بمشاركة 8 أشخاص وبعدد متواضع من الجمهور، أصبح لديها 100 مشارك منهم 12 يلتزمون بتقديم الفقرات، فيما الحضور في تزايد ومن يحضر يأتي في الأمسية اللاحقة بآخرين تستهويهم الفكرة». وتصف التعليلة «بالمنتدى الاجتماعي الذي يجمع الناس بمختلف طوائفهم وجنسياتهم ليتشاركوا الأفكار لتصبح ذات قيمة حقيقية»، مشيرة إلى أن «إقامة الأمسيات شهرياً لا يتطلب من المشاركين دفع فواتير لتقديم مواهبهم فالإمكانات متوافرة بجهود فردية والدعوة مجانية». وتجد روان أن «المشروع له صبغة تنموية ويهدف الى تنمية المجتمع الشاب وتطويره، وكسر الحواجز بين الحضور والمشاركين»، وتؤكد أن «التعليلة ليست حكراً على العاصمة إذ تنتقل بمشاركيها الى محافظات المملكة والدول العربية المجاورة». وتحرص روان على «إقامة فعالياتها في مناطق جيوب الفقر، وكان أولها في منطقة الأغوار حيث لاقت إقبالاً من أبنائها وسُجلت لهم مشاركات حكت عن عاداتهم وتقاليدهم، واستطاعوا من خلالها كسر الحواجز والفروقات وفي الوقت نفسه الإطلاع على أساليب فنية حديثة».