غطى البيانو الكبير الأسود جسداً ضئيلاً ينقر بعصبية على المفاتيح. كشف أداء الطفلة أنها بالكاد تتعلم المبادئ الأولية للعزف، لكن وقفة أمها مستندة على طرف البيانو تؤازرها وتحثها على المواصلة ريثما ينتهي الأب الفخور من تصويرها بكاميرا الهاتف المحمول. أما العازف فوقف يراقب المشهد مبتسماً من بعيد كي لا يربك العازفة الصغيرة، في لحظة مميزة جداً بالنسبة الى تلك الأسرة. ربما كانت لحظة تاريخية أيضاً، فليس من المعتاد مصادفة بيانو من الحجم الكبير (Piano à queue أو بيانو الحفلات الكبيرة) وسط مركز للتسوق، كما من المستبعد جداً توافر فرصة لمس أوتاره في أي مكان آخر بالنسبة الى كثير من العازفين، فكيف بعموم المتسوقين؟ تلك الآلة بالذات، وهي الشكل الأصلي للبيانو، بمظهرها الفخم البارز، وعراقتها التي تعود إلى بداية القرن الثامن عشر، هي حلم كل عازف بيانو، لكنه حلم لا يتحقق إلا للأثرياء، وكذلك المحترفين. وحتى في هذه الحالة يقتصر استعمال البيانو الكبير على العروض الموسيقية الكبرى التي غالباً ما تكون على مستوى دولي. لكن هذه الآلة بالتحديد هي التي زجت بجواد عيداوي، 21 سنة، في تجربة متفردة للعزف على أوتارها وسط مركز تجاري راق يقع في ضواحي العاصمة الرباط. هي تجربة معروفة لدى الغربيين، وجديدة في المغرب، ومرشحة لأن تلاقي نجاحاً وانتشاراً كبيرين. إدارة المركز التجاري اقتبستها لإضفاء مسحة متميزة على جناح جديد افتتحته أخيراً وتسعى الى استقطاب الزبائن إليه «نريد أن نضفي بعض الحياة على المركز ونخلق أجواء تنشيط «شيك» و «كلاس» خلال التسوق»، يقول محمد أحد مسؤولي الإدارة. هذه اللمسة الحيوية الموسيقية تبدأ مساء، وتمتد 3 ساعات. الى جانب المحلات التجارية التي تعلن عن ماركات عالمية على الجانبين، طاولات وكراس أنيقة لمقهى ومطعم في الوسط. يقول محمد: «الهدف من تقديم موسيقى حية بالطبع هو إبقاء الزبائن أطول وقت ممكن في المركز الذي لا يوفر فقط فرصة التسوق، بل أيضاً فرصة للاسترخاء والتمتع بوقت التسوق وقضاء أكثر من غرض في مكان واحد، وذلك خلال فترة دقيقة من اليوم تتميز بالتعب والرغبة في التنفيس والترفيه». وعندما تلقى جواد العرض «الغريب» قبل ثلاثة أسابيع، تردد كثيراً في قبوله، «لم أرد دخول مغامرة غير مسبوقة يمكن ألا تنجح، فتكسرني...»، أسر جواد القابض بحزم وحرص على مسيرة فنية ناجحة، ولكنها شاقة. فالشاب الطموح نال العام الجاري دبلوم الجائزة الشرفية من المعهد الوطني للموسيقى والرقص في الرباط التابع لوزارة الثقافة، مستكملاً بذلك عشر سنوات من التعليم الموسيقي على آلة البيانو، وبات مدرساً في المعهد ابتداء من الموسم الدراسي الحالي، وفي معاهد أخرى في مدن مجاورة للرباط. إنه أيضا يرافق مغنية معروفة باختياراتها الفنية الجادة في أوساط الشباب، سعيدة فكري التي بدأت الغناء في الثامنة، وألفت أول أغنية في سن ال 12. هو أيضا بدأ العزف في الثامنة، ويبدو جدياً أكثر من سنه بكثير. لكن كل التردد الذي انتابه اختفى كلياً عندما علم أنه سيعزف على بيانو الحفل الكبير. «نحن لا نقترب منه سوى في مناسبات إجراء المباريات الدولية فوق المنصة»، يقول جواد وتلمع عيناه بسعادة خلف نظارته الرقيقة. إدارة المركز التجاري من جانبها أرادت أن يقترب من تلك الآلة المتميزة كل رواد المكان المتسوقين. لكن للعزف طقوسه، وأولها أجواء تتيح التركيز للالتحام مع الآلة والمقطوعة الموسيقية، غير أن الحركة الدائبة داخل المتجر التجاري الكبير لم تكن تتيح ذلك، ما جعل جواد يغالب حرجه وارتباكه أمام رواد المتجر في كل مرة اقترب منها من البيانو. ويشبه موقفه ب «شخص يُطلب منه العزف في الشارع». كيف سيبدو في أعين الناس؟ هل سيرضي جميع الأذواق؟ هل سيقدرون أداءه؟ هل سينتبهون إلى وجوده وسط عالم تسوق مغر؟... أسئلة تطرق كل يوم رأس العازف الشاب، على رغم أنه بات يملك إجابات تعيد ثقته بنفسه يوماً بعد يوم. ويلمس جواد نجاح التجربة من فضول الناس، وابتساماتهم وعبارات التشجيع التي يلتقطها بينما أصابعه الخبيرة تنقر بخفة وقوة على مفاتيح البيانو. بعض المعجبين يلحقون به بعد أن يتم أداءه، ويمطرونه بالتنويهات، ويطلبون رقم هاتفه، ويطرحون عليه أسئلة كثيرة عن تكوينه وتجربته، وأيضاً عن وجوده في ذلك المكان. قريباً يكمل جواد شهراً في مهمته المتفردة، وينتهي العقد بينه وبين إدارة المتجر. لا علم له إن كان العقد سيتجدد أم لا، المسؤول التجاري بدوره غير متأكد من الاستمرار في التجربة، «ربما نواصلها، وربما نغير الآلة الموسيقية، وقد نتوقف». الأمر متوقف أيضاً على تقويم كلفة إضفاء الحياة على المكان. في مطلق الأحوال، إدارة المتجر متيقنة أن البادرة لاقت إعجاب رواد المتجر، وجواد يتمنى أن يواصل تجربته الغنية في التواصل في شكل غير متاح مع الجمهور، وفي النقر قدر الإمكان على بيانو الحفل الكبير.