المملكة تُعزّز شراكاتها التجارية مع دول الجامعة العربية في الربع الأخير من 2024م    الرياض تستضيف المؤتمر العالمي للأمراض الجلدية 2031 كخطوة رائدة نحو مستقبل الجلدية العالمي    ارتفاع أسعار الذهب    السعودية تناقش مع إندونيسيا التعاون لإنتاج النيكل والنحاس    الأمم المتحدة: قوات الاحتلال تقتل أكثر من 71 مدنيًا في لبنان    صندوق تمكين القدس يدعو إلى إغاثة الشعب الفلسطيني    ولي العهد يعزي رئيس وزراء ماليزيا في وفاة عبدالله بدوي رئيس الوزراء الماليزي الأسبق    مجلس الأعمال السعودي - الفرنسي يبحث تعزيز الشراكة الصحية    رأس اجتماع اللجنة الدائمة للحج والعمرة.. نائب أمير مكة: القيادة الرشيدة سخّرت جميع الإمكانات لراحة وطمأنينة ضيوف الرحمن    يعد ضمن النسبة الأقل عالمياً.. 2.3 % معدل التضخم في المملكة    محمد بن فهد.. موسوعة القيم النبيلة    المملكة تؤكد على وقف الدعم الخارجي لطرفي الصراع في السودان    الأردن يحبط مخططات تخريبية ويوقف 16 متورطاً    جريمة قتل في القاهرة    السعودية بوصلة الاستقرار العالمي (3-3)    العليمي والزنداني يرفعان السقف: لا حلول وسط مع الميليشيا.. رسائل يمنية حاسمة: تفكيك الحوثي شرط للسلام واستقرار البحر الأحمر    في ختام الجولة 29 من " يلو".. نيوم للاقتراب من الصعود.. والحزم لاستعادة التوازن    وصل إلى الكويت للمشاركة في اجتماع الحوار الإستراتيجي الخليجي.. وزير الخارجية ونظيره الهولندي يبحثان القضايا الإقليمية والدولية    في افتتاح آسيوية ألعاب القوى للناشئين والناشئات بالقطيف|محمد سراج الزاير يحصد أول ذهبية في رمي المطرقة    طالب بتشديد الرقابة على قطاع المعادن الثمينة.. «الشورى» يدعو «التجارة» لتطوير آليات تسجيل الشركات غير الربحية    حسن عبدالله القرشي.. شاعر البسمات الملونة (2/2)    فلسفة كتابة الرأي في حياتي    المدينة المنورة: تطوير تجربة الزائر بربط المواقع التاريخية وإثراء البعد الثقافي    القيادة تعزي ملك ماليزيا    رُهاب الكُتب    الأول من نوعه في السعودية.. إطلاق إطار معايير سلامة المرضى    تغريم 13 صيدلية 426 ألف ريال لمخالفتها نظام "رصد"    أرسنال والريال في لقاء مصيري.. والإصابات تخيف البايرن أمام الإنتر    «المظالم»: إنجاز قضائي لأكثر من 46 ألف دعوى    السجن خمس سنوات لمواطنٍ بتهمة الاحتيال المالي    قريباً في جدة    "السكري" يفرط في موقعة الشارقة.. ويودع الآسيوية    جامعة عفت تطلق مهرجان السينما الدولي للأفلام    «سلمان للإغاثة» يوزع 1.316 سلة غذائية في محلية مروي بالولاية الشمالية في السودان    محافظ الطائف يستقبل رئيس مجلس إدارة جمعية الفنون البصرية    المستشار د. عبدالله محمد بن صالح مركز رشد للتأهيل بالهدا    سمو أمير منطقة الباحة يتسلّم تقرير أعمال الرئاسة العامة لهيئة الأمر بالمعروف    الأخضر تحت 17 عاماً يعاود تدريباته استعداداً لنصف نهائي كأس آسيا    إجراء قرعة دوري الإدارت الحكومية لكرة القدم 2025 بمحافظة حقل    مؤتمر القدرات البشرية.. مجمع الملك سلمان يقدم ثلاث مبادرات نوعية    مركز الملك فيصل يصدر "كتاب الأزمنة" للمُبرّد    تعليم الباحة يطلق جائزة الشيخ الدرمحي للتميز التعليمي    تعليم الطائف ينفذ مشروع معاذ للسلامة الإسعافية في مقرات العمل    "بينالي الفنون الإسلامية 2025" يواصل استقبال زوّاره في جدة    بلدية محافظة البدائع تفعل "اليوم الخليجي للمدن الصحية"    سمو أمير الباحة يتسلم تقارير منجزات أمانة المنطقة والبلديات    انطلاق أعمال الدورة ال47 للجنة الإسلامية للشؤون الاقتصادية والثقافية والاجتماعية    تحت إشراف مركز الملك سلمان للإغاثة.. فريق «البلسم» الطبي يصل سورية استعدادًا لإجراء 95 عملية ضمن المشروع الطبي التطوعي لجراحة وقسطرة القلب    توقيع اتفاقية تمويل "رسل السلام" بقيمة 50 مليون دولار    العالم على أعتاب حقبة جديدة في مكافحة «الجوائح»    20 ناطقا بغير العربية ينافسون عربا بمسابقة قرآنية    نائبا أمير الرياض والشرقية يعزيان أسرة بن ربيعان    الشورى يطالب التجارة بتطوير نماذج عمل جمعيات حماية المستهلك    بخيل بين مدينتين    فرع الإفتاء بجازان يختتم برنامج الإفتاء والشباب في الكلية الجامعية بفرسان    أمير نجران يعتمد الهيكل الإداري للإدارة العامة للإعلام والاتصال المؤسسي بالإمارة    الحقيقة التي لا نشاهدها    أمير تبوك يزور الشيخ محمد الشعلان وبن حرب والغريض في منازلهم    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



سليمان فياض راوياً حكايات «التيه» المصري
نشر في الحياة يوم 06 - 12 - 2009

«أيام مجاور» سيرة ذاتية تتفوق على كثير من السير، كتبها سليمان فياض ونشرت أخيراً في القاهرة في سلسلة «روايات الهلال». ويمكننا أن نقرر في البداية أن مبدع الأدب يستطيع أن يبهرنا بنص ملهم، إذا كتب سيرته الذاتية وتسلح بالجسارة، لأنه قطعاً يمتلك اللغة ويدين بالولاء للفن قبل الناس ومهمته الكشف ومخاطبة الإحساس والوجدان قبل العقل، وتغيب عنه تماماً أو تكاد الرؤية المباشرة أو محاولة تقديم نموذج يحتذى.
تألق قلم سليمان فياض في «أيام مجاور» فصال وجال وحلق وحوم ثم هبط كالطائر على قطعة من البلاد هي الزقازيق (شمال مصر) وما حولها، وحط على قطعة من التاريخ هي الأربعينات وتسمى لدى بعض المؤرخين سنوات المخاض تأهباً لزوال عهد وبداية غيره، وسماها سليمان سنوات التيه، وكأنه أراد أن يقتنص تلك الفترة من فم النسيان قبل أن تطويها يد الزمان. ومضى قلمه فاختار قطعة من فضاء التلقي المدرسي هي مرحلتا الدراسة الابتدائية والثانوية، كما هبط الطائر على شريحة من شرائح الدرس، قليلاً ما دنا منها المؤرخون والكتّاب على رغم اكتنازها بالأسرار والتقاليد العسكرية، وهي المعاهد الدينية وما يجري بين جدرانها أو على تخومها.
يحدثنا الكاتب، وهو يمتح من خزانة عامرة بالذكريات السمان عن مواد الدراسة وأحوال المشايخ وظروف الطلاب ونزواتهم، وعن ألوان الطعام وعذابات السكن وموقف الأهل من الأبناء والسياحة أو «الصياعة» في الشوارع فراراً من ملل الدرس الثقيل والفقر المدقع وتفضيل اللهاث وراء اللذائذ والمتع نكاية في السلطة بكل أشكالها.
يفيض الفياض الذي امتلك من قديم، لغة قديرة تستطيع التحليق بأجنحتها الشعرية، تعينه ثروة لفظية غير محدودة تواتيه بسلاسة حين يطلبها سواء تحدث في الدين أو العلم أو الأدب أو حين يصف شتى الأشياء والمواقف والمشاعر. فهو وصاف كبير، وقد تجلت موهبته اللافتة في أعماله التي تمتعت بمذاق خاص وحظيت، من ثم، بمحبة القراء على مدى خمسين عاماً منذ أن قدم مجموعاته «عطشان يا صبايا» عام 1961 و»بعدنا الطوفان» (1968) ثم «أحزان حزيران» 1969. وأتبعها بروايته القصيرة الفاتنة «أصوات» (1972)، ثم تلتها مجموعته «الصورة والظل» (1976) ثم رواية «القرين» (1977). وعاد إلى القصة القصيرة ليقدم مجموعة «وفاة عامل مطبعة» (1984) إلى أن اختطفه منا النشء حيث عاوده حسّ المربي فتفرغ لوضع نحو أربعين كتاباً عن العلماء العرب. وشاقه الحنين إلى اللغة العربية التي درسها في مقتبل عمره في الأزهر حتى حاز الشهادة العالمية، فانبرى يضع الموسوعات التي تيسر قواعدها وتجمع المتفرق منها وتعين على كشف بعض أسرارها.
في «أيام مجاور» والمجاور هو الدارس بالأزهر أو المعهد الديني يقدم لنا أبو داود لوحات نابضة بالحيوية والحميمية والدفء. وما كنت أحسب أنني سأقرأ كتاباً عن المشايخ في 260 صفحة في يوم واحد، ولم أفلته إلا لطعام أو هاتف أو لقاء ضيف. يحكي سليمان قصص الانفلات والتشرد والبحث عن الحرية والمتعة والمعاناة مع الشيوخ المتحفظين والمتكلسين. ومع كل صفحة تتدفق السطور باستعراض جوانب متعددة وغريبة في أحيان كثيرة من مواقف المراهقين الذين يواجهون المناهج القابضة باللهو والنزق ويغيرون طعمها المر باقتحام المجهول في عوالم النساء والكيف.
وتبدو صورة الحياة في تلك الفترة محكومة بصراعات صغيرة بين الأساتذة والطلاب وبين الآباء والأبناء الذين لعبت برؤوسهم المدينة وداخ الآباء في متابعة أولادهم الذين يعقدون على تعليمهم الآمال في نقلة اجتماعية حتى لقد حرموا أنفسهم من كل الطيبات. لكن المدينة المارقة تفعل فعلها ولا تبقي للدرس إلا القليل، وهم من لا حول لهم ولا طول. فالانحراف بحاجة إلى تمويل، وصراع آخر بين الطلاب الكبار والصغار وبينهم جميعاً وأصحاب البيوت وعلاقاتهم جميعاً وصاحبات البيوت، وبين الكل ولقمة العيش. فمن هو الذي لا يبحث في ظل فقر طاحن عن نفحة ولو يسيرة من نفحات الحياة، وينام هانئاً إذا عثر برغيف، وأهنأ منه من دخل السينما ولو في مقاعد «الترسو» أو سلم على أنثى جميلة.
إنها سيرة سليمان وسيرة معظم زملائه في آن. عرفتنا به كما عرفتنا بجيله وبمصر أيضاً وقد أعانته ذاكرته الكريمة التي أمدته وأمدتنا كلما فتح صنابيرها التي لا تشكو إلا من الامتلاء. والسيرة السليمانية لا تدفع نحونا بنهر الحكي الممتع فقط ولكنها تحمل إلى ذهن القارئ معلومات تفصيلية عن كل شيء. كأن المراد أن ترحل عائداً في عكس عقارب الزمن لتعيش تلك الفترة، وفى الوقت ذاته فهي لا تفتأ تكشف عن خفة ظل الكاتب وحسه الساخر، كما لا تكتفي بمنح الفرصة لحسه الدرامي الذي يتجلى في طريقة تشكيل ووصف المواقف. لكنّ الحس الدرامي يتخفى وراء العبارات ذاتها، فالعبارة يتم تشكيلها ليس دائماً بحسب قواعد اللغة ولكن بحسب قواعد الدراما، ولن يعتقد القارئ أن سليمان يحطم اللغة، كما يذهب بعضهم، لكنه يثور على التقليدية ويعيد تشكيلها بحيث يحقق لها درامياً أفضل تأثير ممكن.
وتضيف اللغة من عندها، وهي فرحة بالدرامية التي فجرها فيها جماليات جديدة لم تكن لها من قبل، وهذا مما يحسب للكاتب المبدع الذي لم تكبله معرفته العميقة باللغة مثل البعض وقد سار حيث سار بيكاسو الذي تعلم التصوير التقليدي وتمكن منه ثم ثار عليه. وأحسب أن اللغة في «أيام مجاور» من أجمل ما كتب سليمان. إذا مضينا مع النص المخاتل، أسرع يصاحبنا في جولاتنا كالمرشد أو الدليل، عنصر المفارقة يظهر ويختفي ليؤنس مسيرتنا. لكن المهم هو أن المفارقة ليست فقط في المواقف ولكن أيضاً في اللغة التي تستدرجك الى عوالم طريفة إن لم ترق لك من حيث الأحداث فستحقق لك متعة رفيعة من مجرد الطرح وأسلوب الحكي.
ما كان لي أن أتعاطف مع هذا النص الشائق لولا حرارة التجارب ونداوة الإحساس بالطعوم النفسية المختلفة التي تعصف بالشخصيات، من غم وهم ولوعة وعشق وفرح وخوف واطمئنان، من فقر ورضا وانكسار وانتصار، نجاح وإخفاق، جوع وشبع، رحمة وعنف.
حكى لنا الكاتب عن مدينة التيه وحي الواسعة حيث البنات الضائعات الواقفات تحت الأشجار على رصيف كورنيش بحر مويس في وقدة حر القيلولة ينتظرن الزبون. وحدثنا عن مستشفى الأمراض السرية التي أغلقت بعد قيام رئيس الوزراء إبراهيم عبدالهادي بإلغاء البغاء. ولم يفته أن يحكي عن تفانينه في الغش وابتكارات غيره في تصميم المقالب للخصوم بخاصة الرسائل السرية إلى الآباء في قراهم ليطبوا في لحظات مصيرية على اللاهين من أبنائهم، وتصحو المدينة على الصراخ والضرب والجر. ويعترف الكاتب باضطراره مع خلو الجيب من صنف العملة الى النوم فوق قطار الدلتا عائداً إلى قريته.
وتحتاج هذه السيرة الروائية إلى مزيد من الضوء والدرس وعرض النماذج التي تكشف وتؤكد ما سبقت الإشارة إليه، من الجسارة والقدرة الوصفية والمعلومات واللغة الشاعرية المجنحة والمهيبة في غير حذلقة، وكذلك السخرية وسخونة التجربة، فضلاً عن حضور الموهبة القصصية بأدواتها السردية الراسخة.
ولعل هذا يكون من شواغل النقاد الأقدر على النفاذ والغوص وتقدير اللآلئ.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.