قالها الحكماء قديماً... احذر من الحليم إذا غضب، وحينما يبلغ السيل الزبى أو آخر العلاج الكي، كل هذه المعاني اشتملت في الأمر الملكي الكريم الذي أصدره خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز تجاه كارثة أمطار جدة وتداعياتها. فقد كان واضحاً من البيان التأثر نتيجة ما وقع لأهالي جدة من جراء الأمطار والإهمال. وليس بمستغرب أن يصدر مثل هذا البيان القوي والمؤثر؛ رسالة واضحة لمحاسبة المقصرين. فالملك عبدالله عرف أنه صاحب مواقف شجاعة على المستوى المحلي ويشهد له الكثير من الجوانب الإنسانية، فضلاً عن مواقفه الشجاعة على المستويين العربي والإسلامي، إلا أن الملك عبدالله كان دائماً يبرز كرجل المهمات الصعبة، يكفي أنه مكتشف أحياء الفقر في البلاد، وهو أيضاً صاحب مبادرة الحوار الوطني. نعود إلى الأمر الملكي بخصوص ما حدث في جدة نتيجة هطول الأمطار، من حق ولي الأمر أن يغضب إذا رأى أن الجهات المعناة بخدمة المواطنين قد قصرت أو أهملت ونتج عنها أضرار جسيمة، والحقيقة يجب أن تقال، وهي أن الدولة اعتمدت مبالغ ضخمة لمشاريع البُنى التحتية، وأنفقت مبالغ باهظة وصرفت من موازنة الدولة الشيء الكثير، والحقيقة أيضاً يجب ان تقال: في كثير من الأحيان كانت تصرف بسخاء من أجل رفاهية المواطن، فبدلاً من أن تنفق ريالاً في مشروع كانت تصرف عشرة أضعاف قيمته، كل ذلك لكي يسعد المواطن. غير أن ما كان يحدث هو أن المواطن كان يتحصل من هذه المبالغ على 5 في المئة من المطلوب منها فقط، فيما بقية المبالغ «95 في المئة» يتقاسمها الفاسدون في الأرض، أليست هذه أمور مزعجة وتستوجب الاستفسار والسؤال؟ من يقرأ الأمر الملكي ربما يجد تلويحة يده التحذيرية للمقصرين، وشفقة وعطفاً على رؤوس المتضررين والضحايا، وأيضاً تحذيراً لمن تسول له نفسه مستقبلاً أن يتلاعب بحقوق الناس: «إن من المؤسف أن مثل هذه الأمطار بمعدلاتها هذه تسقط بشكل شبه يومي على الكثير من الدول المتقدمة وغيرها، ومنها ما هو أقل من المملكة في الإمكانات والقدرات، ولا ينتج عنها خسائر وأضرار مفجعة على نحو ما شهدناه في محافظة جدة، وهو ما آلمنا أشد الألم». وهنا وبلهجة مشددة: «من المتعين شرعياً التصدي لهذا الأمر، وتحديد المسؤولية فيه والمسؤولين عنه -جهاتٍ وأشخاصاً- ومحاسبة كل مقصر أو متهاون بكل حزم، من دون أن تأخذنا في ذلك لومة لائم تجاه من يثبت إخلاله بالأمانة والمسؤولية الملقاة عليه والثقة المناطة به». كان بيان الملك واضحاً: «مسؤولية الجهات المعنية كل في ما يخصه أمام الله تعالى، ثم أمامنا عن حسن أدائها لمهماتها ومسؤولياتها والوفاء بواجباتها». وأضاف أنه يدرك «أنه لا يمكن إغفال أن هناك أخطاءً أو تقصيراً من بعض الجهات، ولدينا الشجاعة الكافية للإفصاح عن ذلك، والتصدي له بكل حزم». مضامين القرار تفتح الأبواب مفتوحة نحو الإصلاح الحقيقي في البلاد، وما حادثة أمطار جدة سوى بوابة لفتح ملفات الفساد الإداري التي دعا إليها الملك شخصياً وولي عهدن الأمين، وهي تعيد الأمور إلى نصابها بعد أن بقيت غائبة سنوات طويلة. في حادثة أمطار جدة فقد الكثيرون أرواحهم وأعز ما لديهم، وانكشفت المشاريع التي كنا نسمع عنها، إلا أن الشيء اللافت هو أننا خرجنا بقرار شجاع من ملك الإنسانية، يعد حدثاً مهماً وتاريخياً ومنعطفاً في مسيرة الإصلاح الإداري، لقد فشا الفساد وترهل، وأصبح عبئاً ثقيلاً على المجتمع، وفقد الناس الثقة في أي تصريحات أو وعود من المسؤولين، بل حتى إنهم لم يعودوا يلتفتون لها. أمطار جدة كشفت لنا غياب إدارة الأزمة، وسوء التعامل في ما بين الأجهزة الحكومية في تبادل المعلومات لمصلحة المواطن، فبرزت معلومات مغلوطة ومتضاربة تثير الدهشة والاستغراب، وخرجت لنا تصريحات تقول إن من أسباب تضاعف الخسائر قيام مخططات عشوائية ومساكن على أراضٍ معتدى عليها من المواطنين. دعوني أسألكم: هذه المخططات التي اشتراها الناس بأسعار زهيدة لكونها دون صكوك، أليس ملاكها أصحاب النفوذ والقرار؟ وكان سماسرتها مكاتب العقار؟ وحينما يذهب مواطن بسيط من ذوي الدخل المحدود لشراء أرض قيمتها 7 آلاف ريال - من أجل بناء منزل شعبي له - يكون قد أضناه التعب لمراجعته البلدية من أجل الحصول على منحة ارض، لهذا فضّل شراء أرض رخيصة ليسكن عليها. إذا اعتبرنا أن هذه الأراضي أراضي دولة فكيف يبيعها أصحاب النفوذ على المواطنين مستغلين جهلهم وضعفهم؟ وإذا افترضنا أن تلك الأراضي أقيمت على مساحات حكومية، فكيف دخلت إليها الكهرباء والهاتف؟ أليست تلك جهات حكومية؟ والسؤال الآخر الذي يبرز بقوة ويحتاج إلى إجابة من أمانة محافظة جدة هو: على أي أساس دفنت البلدية مجرى السيل وتحول إلى أرض مسطحة، بهدف الاستفادة منه كمشروع استثماري، عندما تقدم أحد رجال الأعمال بذلك؟ ما جعل مياه الأمطار تنحرف عن مسارها الصحيح، وتزحف لتغطي المساكن النائية التي لم يكن من المتوقع أن تصل إليها لو بقي مجرى السيل مفتوحاً. من المهم جداً أن اللجنة التي تم تشكليها من أجل التحقيق والمساءلة يجب ألا تعمل في الظلام وبعيداً عن الإعلام، ومن المهم أن تعين متحدثاً رسمياً يتواصل مع الإعلام ويزودها بالتفاصيل والمستجدات، واقترح أن تضم جهات اجتماعية وإنسانية مثل جمعية حقوق الإنسان، وشخصيات اعتبارية للاستفادة منها. أما الشيء الذي يقلق الناس في جدة، خصوصاً المتضررين، فهو أن معظم البيوت التي تضررت أو ضاعت ممتلكاتها لا تملك صكوك إثبات ملكية رسمية، بل أوراق مبايعة عادية، الأمر الذي يقلل من إمكان الاستفادة من التعويضات التي قررها الملك، والأمر الآخر هو تعويضات اصطحاب السيارات، فمعظمهم يمتلكون السيارات بنظام التأجير المنتهي بالتمليك، هؤلاء كيف يمكنهم الاستفادة من التعويضات؟ لهذا أقترح أن ينظر إليهم بعين الشفقة والعطف، وألا تماطل وزارة المالية كعادتها في صرف المستحقات. عاش الملك للعلم والوطن. * إعلامي وكاتب اقتصادي. [email protected]