لا أدري كيف جاءت مصادفة بدء أولى محطات مهامي البحثية المتنوعة في القاهرة بزيارة «مركز البحوث والدراسات السياسية بجامعة القاهرة»، وانتهاء بزيارة «مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية» وكلاهما يعنيان - إلى حد ما - بالهدف ذاته! إبان رحلة علمية لا أزال أعيشها. الأخذ بيد الشباب ومبادراتهم وتمكينهم من الأخذ بدورهم في مناقشة وحل مشكلات مجتمعهم ورسم مستقبله من خلال القنوات الرسمية، هذا أمر يؤدي إلى تأجيج الشعور بالانتماء الفعال لمجتمعهم ووطنهم، وكان هذا الموضوع محل النقاش الأكبر المتفق عليه في حديثي مع أستاذة العلوم السياسية الدكتورة «هدى ميتكيس» في أول لقاءاتي البحثية ومع بقية الباحثين في مختلف المراكز والجهات البحثية المعناة. بحثت كثيراً عن الأسماء من فئة الشباب بين أسماء المتحدثين الأساسيين أو المحاورين المشاركين في كل اللقاءات السابقة التي يعقدها مركز الملك عبدالعزيز للحوار الوطني، في اللقاءات الخاصة بالشباب ومواضيعهم. ولعل السبب الذي يجعلني أعلق الآمال على المركز أنه المكان الوحيد والمناسب لاستنبات ممارسة الشباب للعمل السياسي المقنن، أو مكان الممارسة الأمثل للتربية السياسية التي تقع مسؤوليتها على عاتق الجامعات تجاه هؤلاء «الصغار» من الشباب، في حين أن بيروقراطية أكثر مؤسساتنا المترهلة تعيش ثقافة الكهولة أو سياسة هيئة «الكبار». تثير مسألة « الهوية» الفكرية قضية الانتماء والولاء، فهوية المجتمع هي شخصية المجتمع وكينونته، والهوية تتطلب الإجابة عن تساؤلات رئيسة عدة: من أنا، ومن نحن؟ ولمن الولاء؟ والإجابة عن هذه التساؤلات هي ما يحدد شخصية المجتمع وهويته، ومتى اختلفت الإجابات عن هذه الأسئلة وتعددت وتضاربت، فإن ذلك يثير ما يُعرف بأزمة الهوية، التي تطرح بدورها كثيراً من الآثار السلبية على المجتمع الذي يعاني منها. وبهذا المعنى تعد «المواطنة» تعبيراً عن الهوية والانتماء الجماعي، فالهوية ذات دوائر متعددة، والانتماء إلى تكوين محدد والولاء له أشكال متنوعة. اكتشف المجتمع أن غياب مقومات الأمن الفكري دافع أساسي لإعادة صياغة هوية المجتمع الفكرية، أو إعادة تأهيل وبناء ثقافة فكرية آمنة في المحيط الاجتماعي بجميع عناصره؛ ولهذا السبب كانت الجامعات من أكثر المساحات التربوية حضوراً في الخريطة الاجتماعية، وهذا ما جعلها مساحة صالحة لاستنبات مقومات مجتمعية إيجابية، وفي الوقت نفسه يمكن للظواهر المجتمعية السلبية أن تبني فيها الفرص نفسها وتسهم في التدمير. يؤكد عدد من الباحثين على الدور العظيم للتربية السياسية في تحديد الهوية الثقافية، وذلك بعد تداخل القيم في ما بينها واختلاط المبادئ بعضها ببعض، بحيث أصبح من الصعب جداً وضع حدود فاصلة بينها. الثقافة السياسية ثقافة فرعية أو جزء من الثقافة العامة للمجتمع، وعلى رغم أنها مستقلة - بدرجة ما - عن النظام الثقافي العام، إلا أنها تتأثر به، فأي نظام سياسي بحاجة إلى ثقافة معينة تغذيه وتحافظ عليه. السؤال الذي يجب أن يحظى بالإجابة هنا: ما الدور الذي يمكن للتربية السياسية أن تلعبه في مواجهة الفكر المنحرف؟ ينبغي الإشارة إلى أن هذا الموضوع عريض وعميق في الوقت ذاته، وفي هذا الصدد يجمع معظم الباحثين: إذا كانت التربية الأكاديمية تسهم في تجهيز المتعلم علمياً، ولها دورها في مساعدته على مواجهة الحياة، فالتربية السياسية هي الحياة ذاتها، فنحن نعيش بالسياسة ونتعامل بها، وأفعالنا وردود أفعالنا بمثابة قرارات سياسية نصدرها على أنفسنا وعلى غيرنا من الناس، ورؤيتنا للمستقبل تبدو وكأنها توقعات سياسية. من المنطلق السابق ترتبط التربية الأكاديمية بوشائج نسب متينة قوية الأساس بالتربية السياسية، مع الأخذ في الاعتبار ما للتربية السياسية من دور مهم وحيوي بالنسبة للقرارات التي تمس الناس جميعهم بلا استثناء. للتربية السياسية دورها الملاحظ في مواجهة الفراغ السياسي الذي يعاني منه الشباب، الذي قد يقوده إلى الانسحاب على ذاته وعدم الانغماس في مشكلات المجتمع، وقبول الأمور على علاّتها من دون مناقشة أو تفكير، لأنه لا يوجد شيء مهم بالنسبة له، وكل الأمور أمامه سيان. وفي المقابل، قد يقود الفراغ السياسي بعض الشباب إلى التمرد والخروج على القانون، وعدم الانسجام مع أقرانهم ومع المجتمع، أيضاً، قد يؤدي الفراغ إلى نزوع الشباب للجموح والحدة والمواجهة الساخنة ورفض المشورة وتحدي إرادة الكبار والميل للعنف، وتتمثل الخطورة الحقيقية للفراغ السياسي في استغلال بعض المغرضين ونهّازي الفرص، ممن يركبون الموجة لاستغلال الشباب، سواء أكانوا من المنغلقين على ذواتهم أم من المنتهزين المندفعين؛ لتحقيق مقاصدهم وأهدافهم الشخصية. كل ذلك يعود إلى الفراغ السياسي الذي يعيش فيه الشباب، الذي يجعل الصورة الماثلة أمامهم منفصلة عنهم، نتيجة غموضها وسوداويتها، أو نتيجة اهتزازها وعدم وضوح معالمها؛ فلا يستطيع الشباب أن يخطو خطوة واحدة إلى للأمام من دون أن تتلقفه يد مغرضة، تستخدمه لتحقيق أغراضها. في مقابل أهمية المناداة بدور التربية السياسية، هناك كثيرون يتحفظون على ذلك الأمر، على أساس أن المدرسة أو الجامعة ليسا مكانين مناسبين لممارسة السياسة، فقد أثبتت عدد من الدراسات أن السياسة ربما أدت إلى أحزاب وتحزب، وذلك قد يؤدي بالتالي إلى تقسيم المجتمع الطلابي إلى فرق ومجموعات متنافرة ومتناحرة. وهنا أتفق تماماً مع هذا الرأي، فقد تقود ممارسة السياسة داخل المؤسسات التعليمية بالمتعلم للتبعية المرفوضة، لكن في الوقت ذاته يمكن للتربية السياسية من خلال المناهج الجامعية وأنشطتها الطلابية أن تضع الشاب الجامعي على بداية الطريق كي يعرف المشكلات التي يعاني منها مجتمعه، وكي يطرح المشكلات الحياتية بالنسبة له، وبذا يسهم الشاب الجامعي في بلورة هذه المشكلات وتلك، ويحددها تحديداً تاماً ليعرف أبعادها وبعض سبل حلها، وبذا لن يكون كالريشة في مهب الريح. لا يمكن إغفال دور التربية السياسية في استغلال طاقات الشباب الذهنية والجسمية، إذ عن طريقها تطرح المشكلات التي تهم الشباب أو الصعوبات التي تقف في سبيل تقدم المجتمع وتطوره، وتناقش هذه المشكلات والصعوبات، ليدلي الشباب بآرائهم وتصوراتهم عنها. ولما كان الشاب يميل دائماً إلى أن يكون موضع اهتمام الآخرين ومحط أنظارهم، ولما كان المتعلم يرى أن وجهة نظره في المسائل التي تهمه شخصياً وتهم مجتمعه ينبغي أن يكون لها صداها عند المسؤول، فإن من المهم جداً أن يعيش المتعلم التجربة من جميع جوانبها. وعليه؛ فمناقشة الشباب في مشكلاتهم ومشكلات المجتمع، والحرص على الاستماع والإصغاء باهتمام لما يقولونه أو يطرحونه من أفكار وحلول، يجعلهم يوجهون جل اهتمامهم للمشاركة الفعالة في حل القضايا الخاصة بهم وبغيرهم، ولا يقتصر الأمر عند هذا الحد؛ لأنهم يدركون أن ما يقولون أو يفعلون سيكون قيد التجربة والحكم عليه، الأمر الذي يجعلهم يحرصون على التدقيق وتحري الصحة في القول والفعل، كما سيسعون ليكون ذلك من خلال منهج علمي، يقوم على التفكير العقلاني المدقق، حتى يشعر الجميع بقيمة وأهمية تصوراتهم وتوجهاتهم نحو الأمور التي تمسهم وتمس مجتمعهم. * باحثة سعودية في الشؤون الأمنية والفكرية. [email protected]