في 25 أيار (مايو) 1453، بينما كان السلطان العثماني محمد الثاني (الفاتح وشيكاً) يحاصر عاصمة ما بقي من الإمبراطورية الرومانيةالشرقية، مدينة القسطنطينية، ويخيم على المدينة سحاب كثيف وثقيل من الغبار، برقت في ثنايا السحاب وجنباته بروق غريبة، لم تلبث أن انزلقت على قبة كنيسة الحكمة الإلهية (آيا صوفيا)، فلم يشك منجمو السلطان في أن التماع القبة الكبيرة بالضوء الخاطف علامة لا تخطئ على وشك انتصار دين الحق. وأحبطت البروق المحاصرين. فالعلامة الجوية الغريبة إيذان بمصير مشؤوم. وهي حلقة في سلسلة علامات سبقتها، منها ليالٍ جليدية وسحب متقلبة تحوم في سماء المدينة وجوارها منذ أشهر، وتثير قلق الأهالي ودهشتهم. وحين كتب ستيفن رانسيمان تاريخه في «سقوط القسطنطينية» في 1965، شارك أهالي المدينة وجوارها القريب والبعيد دهشتهم وحيرتهم. وكتب: «لم ينته أحد الى تعليل الأضواء الغريبة هذه». وما كان بقي الى 1965 من غير تفسير أو تعليل وقع المؤرخون وعلماء المناخ، والفيزياء الكهربائية والمغناطيسية، على «سره» أو سببه. فعلى بعد 17 ألف كلم من القسطنطينية، الى الشرق منها، في جهة من العالم يجهل وجودها معظم البشر، هي جزيرة كووي من جزر أرخبيل فانواتو على مقربة من أستراليا، دمر انفجار بركاني هائل، في 1452م، الجزيرة، وذر غبارها في أنحاء المعمورة. فكانت الحادثة هذه طليعة عولمة مناخية انتهت بعض آثارها يومذاك، مثل «العلامات» فوق القسطنطينية عشية انقلابها الى اسطنبول، إلينا. وعاصر انفجار الجزيرة الأوقيانية، على ما سمى كونراد هالت – بُرون في 1812 القارة اليابسة الخامسة، حركات وحوادث شبكت القارات بعضها ببعض، أبرزها فتوحات تيمورلنك ورحلات ماجلان حول رأس الرجاء الصالح، وتوجها اكتشاف القارة الأميركية في 1492. ويقع أرخبيل فانواتو على حزام النار في بحر كوراي، الى الجنوب الغربي من المحيط الهادئ. وهي أكثر بقاع الأرض نشاطاً زلزالياً. وفي 1452، وقع أعظم انبعاث بركاني في غضون العشرة آلاف سنة الأخيرة، على قول الخبراء. فانفجرت جزيرة كووي، وخلّف انفجارها أخدوداً في البحر، وموجة عاتية. والأرجح أن الموجة العاتية ضربت شطراً كبيراً من أوقيانيا، بين كاليدونيا الجديدة وأستراليا. وتبعد شواطئ هذه من فانواتو 1800 كلم. والى هذا، ذرَّ الانفجار في الجو كتلة هائلة من المواد البركانية تقدر ب35 كلم3، ونشر سحابة من الغبار دارت حول الأرض، وحجبت طوال أشهر أشعة الشمس. وأدى حجاب الغبار الى انخفاض الحرارة على الأرض درجة مئوية واحدة، ترتبت عليها اضطرابات مناخية ظهرت طوال 1452 و1453. وعثر علماء الطبقات الجليدية، في أثناء الأعوام الأخيرة، بين الأنتاركتيك وغروينلاند، قشوراً وشظايا حفظت بقايا حامض الكبريت المتخلفة عن خسارة الغاز إثر الانفجار، تجمع بينها عودتها الى وقت واحد. ويعيد دارسو البراكين الانفجار البركاني الى 1440، مع فرق يزيد أو ينقص يبلغ 30 عاماً. وفي منتصف القرن الخامس عشر (م) تحركت براكين كيلوت في جزيرة جاوا (الأندونيسية)، وآنياكشاش في ألاسكا، وإيلميستي في البيرو. وتتضافر القرائن المكتوبة والروايات على تأريخ الاضطرابات المناخية، أي انخفاض الحرارة درجة مئوية، بالعامين 1452 – 1453. فمن كوريا الى اسكوتلندا، دونت كتب الأخبار الذعر الذي خلّفه الانخفاض هذا. فخشي أهل القاهرة على سماح مياه النيل، وخاف أهل موسكو انتشار المجاعة. وعالجت المصادر الصينية مخلفات الحادثة المناخية في الربيع «الشائط» والصيف الماطر. وعلى هذا، فمسرح الحادثة الأرضية والمناخية التاريخية هو الأرض كلها. والحادثة نفسها هي جزء من تاريخ كوني عام. وليس مرد هذا الى أنها انتشرت في أرجاء الكوكب الأرضي من أدناه الى أقصاه وحسب، وإنما السبب الأول في تاريخيتها الكونية هو ولادتها، أي ولادة خبرها وسردها عن شبك مواد علمية متفرقة، ومصادر خبرية متباعدة، ما كان لها أن يتصل بعضها ببعض، ويشبك بعضها ببعض، لولا عولمة وسائل البحث والتقصي على النحو المتاح اليوم. فالتاريخ العالمي هو ثمرة عولمة الدراسة والبحث التاريخيين. والحق أن ما يشكل على الباحث اليوم هو اسم حوادث مستعادة مولودة من تقريب وقائع منثورة في العالم، وجَهِل بعضُها بعضاً وغفل عنه، ولم ينتبه معاصر لتواردها وتعالقها. وقد يكون القرن الخامس عشر (م) عصر العولمة الأول. والمفارقة أن القرن هذا هو حقيقة وفعلاً قرن ارتفاع الحواجز بين أجزاء العالم. ولكن الحادثة الكونية أو العالمية الأولى المعروفة حصلت في جزء كان معظم الأجزاء الأخرى يجهل وجوده، هو جنوب المحيط الهادئ الذي لم يبتدئ الأوروبيون استكشافه قبل القرن السابع عشر. والوقائع المبعثرة والمحلية التي نجمت عن انفجار جزيرة كووي، استغلق فهمها على المعاصرين، وعلى من جاء بعدهم الى يومنا، هي ارتدادات واقعة أو حادثة حصلت في مجتمع من غير كتابة، ومن غير ذاكرة مدونة. وبعض الأنّاسين، من دارسي علم الإنسان أو الاناسة (الانتروبولوجيا)، جالوا في جزر أرخبيل فانواتو بحثاً عن آثار الزلزلة البركانية العظيمة في أساطير السكان المحليين. وإحدى هذه الأساطير تروي خروج الحجارة من أحشاء الأرض مثل قبيلة مولولة، واختطاطها الطرق على صفحة البحر وهي تقتتل. وتقول الأسطورة إن الإنسان ولد من الفوضى هذه، بارداً في أول أمره على شاكلة العشب البحري والصخري، قبل أن تأتي المرأة وتبعث الدفء فيه وتؤنِّسه (أو تؤنسنه). وتذهب الأسطورة الى أن البشر يشبهون المراكب التائهة في البحر، وإقامتهم في مكان واحد تشدهم الى المكان، وتوطنهم، ولكن المراكب تدعوهم الى الطرق وانتهاجها، وتربطهم بأحلاف، وتعقد بينهم وبين أقوام أخرى. وكان برونيسلاف مالينوفسكي في كتاب رائد، «ملاحو المحيط الهادئ الغربي» (1922)، تعقب المبادلات الرمزية، من قلائد وعقود وأساور أصداف ومحار، بين مجتمعات جزر بينها مسافات طويلة. ومذ ذاك، والدارسون منكبون على دراسة الملاحة البعيدة التي زاولتها المجتمعات الماليزية. ومن مدغشقر الى غرب جزيرة باك (الفصح) شرقاً، ومن هاواي شمالاً الى نيوزيلندا جنوباً، تولت الملاحة المحيطية أنسنة ثلث مساحة الكرة الأرضية. واضطلع بحارة جزر الهادئ، بواسطة مراكب مقعرة، تحفظ تقعراتها توازنها، وخرائط مرسومة بالأصداف، بالشطر الأعظم من إنشاء المعمورة أو المسكونة. وهم أنجزوا عولمة متأنية وهادئة حفها صمت التاريخ. ولا يبدو أن أهل جزر المحيط الشاسع كانوا على هامش الأرض. ففي القرن الخامس عشر زرع أهل غينيا الجديدة البطاطا الحلوة في حقولهم. ويرجح أن يكونوا استوردوها من جبال الأنديز بأميركا الجنوبية. وتروي أسطورة من البيرو أن ملك الإنكا، توباك يوبانكي، ركب مركباً قبيل استوائه على العرش (في 1471، بحسب المؤرخين)، وسافر مستكشفاً جزر المحيط الهادئ، وعاد بعد عام الى كوزسكو محملاً بالذهب والرجال السود. وتروي أخبار جزر الماركيز الشفهية أن رئيساً كبيراً يدعى توبا، أتى من الشرق... وما يدعونا اليوم الى الانتشاء بهذه الحوادث وروايتها هو أنها قرائن على تاريخ عالمي، أو تاريخ شامل، سبق «الاكتشافات (الجغرافية) الكبرى»، فاتحة غلبة الغرب على العالم. فهي علامة على طريق طويلة سبقت الغلبة هذه، وآذنت بها. والتاريخ العالمي أو الشامل هو بمنزلة نقد حاد لنهج أوروبا الغربية في تناول العولمة (وهذه سيرورة تاريخية ومقالات في السيرورة، معاً). وقبل 1492، لم يكن شيء أو تاريخ مكتوباً أو قدراً مقسوماً. وعولمات أخرى كانت جائزة ومتاحة. والتاريخ المتواشج والمتشابك هو ثمرة قران أزمنة العالم وأوقاته. وعليه، فابتكار الغرب العالم الجديد، في ختام القرن الخامس عشر، كان وليد تضافر انتظارات خلاصية غير متوقع. فرحلة كريستوف كولومبوس الكبيرة في 1492، شأن التوسع البرتغالي في عهد الملك عمانوئيل الأول (1495 – 1521)، صدرا عن أفق خلاصي هو بعض انتظار يوم الدين وقيام الساعة. والتقى الانتظار الخلاصي البرتغالي والإسباني نظيره المحلي. فتقويم قوم المايا كان يتوقع ظهور ديانة جديدة عشية رسو المراكب الأوروبية على شواطئ أميركا. وما هو غير شائع ربما أن العام 7000 في التقويم البيزنطي يصادف عام 1491 في التقويم الميلادي (الغريغوري)، وهو العام «الأخير». وبعث هذا القلق في روسيا، وهي نصبت نفسها روما الثالثة، وخليفة بيزنطية على الإمبراطورية المسكونية. وابتداء القرن العاشر الهجري هو عام 1494 الميلادي، فنفخ القرن الجديد روحاً خلاصية في السلطنة العثمانية، ودعاها الى فتح المغرب. ودعا إيران الصفوية الى انتظار «الإمام المجدد». وفي 1501 زعم الشاه اسماعيل انه هو الإمام. وزعم سيد محمود، في الهند، أنه هو الإمام كذلك. وبينما توثقت وقويت علاقات المحيط الهندي ببحر الصين وحوض المتوسط، ونزعت ممالك شرق افريقيا الى الاستقرار على الشواطئ، انكفأت الصين على أراضيها وأقاليمها. فترك الأميرال زينغ وهي في 1433، الملاحة البعيدة التي حملته على الدوران حول أفريقيا، ونُقلت العاصمة من نانكين الى بكين، وبني السور العظيم غداة هزيمة أسرة مينغ أمام المغول في 1449. وبين الصين وأوروبا، امتد الممر الأوراسيوي وفي وسطه الإسلام. واجتاح جنكيز خان سلطنة دلهي (1398)، وحطم القوة العثمانية (1402). وحالت وفاته، في 1405، دون اجتياح الصين. فاستولت القبائل التركمانية على أقاليم الإسلام القديمة، وانتقل مركز ثقل الممالك الإسلامية الى سلطنات المماليك والعثمانيين. وفي 1452، هاجم محمد الثاني العثماني ما بقي من الإمبراطورية البيزنطية، وحاولت هذه تنبيه الممالك الغربية الى الخطر المحدق بها من غير صدى. ففي الأثناء، كان سلطان الكنيسة ينحسر، ويعلو سلطان الدولة الملكية الوطنية، على ما نرى نحن اليوم، من حيث نحن. * أستاذ محاضر وعضو المعهد الجامعي الفرنسي ومنسق «تاريخ العالم في القرن الخامس عشر» (2009)، عن «ليستوار» الفرنسية، 11/2009، إعداد و. ش.