لا يقدّم كتاب «العرب ومسألة الاختلاف: مأزق الهوية والأصل والنسيان» للباحث الجزائري إسماعيل مهنانة أستاذ الفلسفة المعاصرة في جامعة قسنطينة أجوبة، بمقدار ما يطرح أسئلة، في موضوعات الاختلاف والتعدد والحوار والمثاقفة، كما هي في البيئتين الغربية والعربية، مع مراعاة الفوارق والسياقات. هذه الروح المشاكسة والحافرة في البنى الفكرية والمعرفية، بقصد مساءلتها - اختبارها، تضع قارئ الكتاب منذ فصله الأول «أسئلة الفكر والكينونة» في مواجهة يقينياته، بحيث يجد نفسه يطرح سؤالاً، في الوقت الذي كان يتقصّد فيه إجابة. يتساءل مهنانة: «هل فكّرنا في واقعنا وكينونتنا بوصفهما تعدداً واختلافاً؟ أو فكرنا في أنفسنا بوصفها كينونة متعددة واختلافية؟ من أين وكيف ورثنا اعتقادنا الراسخ بكوننا جوهراً؟ هل نحن فعلاً شرق خالص؟». يذهب مهنانة إلى أن المجتمعات الإنسانية، ومنها المجتمع العربي (هل هناك مجتمع عربي واحد؟) تبقى، مهما بلغت من تحرير للعقول، وتعقيل للعلاقات، مشغولة بالدين- التدين، وتقرأ شطراً من الوجود على ضوء مقولاته، مستشهداً بمقولة فرويد «من الوهم أن نعتقد أن الديني قد يتراجع أمام زحف أكبر للفاعليات العقلانية». من هنا يرى الباحث أنه آن الوقت لفتح نقاشات فلسفية عالمية وجدية حول الدين والتدين والإيمان واليقين، مما يقودنا، وفق مهنانة، إلى الحديث عن النص والأصل والهوية، بدل التخندق والنزاعات السياسية حول الحقيقة. ثمة ثلاث مقاربات متوفرة، وفق الكتاب الصادر حديثاً في طبعة مشتركة بين دور «الاختلاف- الجزائر» و «ضفاف- لبنان» و «الأمان- المغرب»، للتعاطي مع المسألة الدينية، هي الطريقة العلمانية التي تعتبر الدين نظرة ميتافيزيقية للعالم، والمقاربة الأنثروبولوجية التي تفسر الدين- التدين بالشروط الاقتصادية والثقافية المحيطة به، والمقاربة الهيرمينوطيقية التي تصغي إلى كل الأصوات والرؤى والقراءات. أمام هذه المقاربات، يعود الكاتب بقارئه إلى ما سمّاها «أوهام الأصل» ويتساءل: «هل فكّرنا في شكل كافٍ في هذا الهوس الجماعي بالأصول؟ هل توجد أصول ثابتة في المعنى التاريخي للحقيقة التاريخية؟ أم أن الأمر لا يعدو كونه سردياتٍ يتم تمثلها من طرف المؤمنين بكونها حقيقة تاريخية؟». لعل رغبة الكاتب في تأصيل مسألة الاختلاف في أبعادها المختلفة، من منظور عربي، هي التي أدت به إلى الاحتفاء بالمشروعين الفكريين لعبدالله العروي ومحمد أركون، حيث تتوفر العناصر التاريخانية المساعدة على قراءة الظواهر والأحداث والأفكار وفق السياقات - الشروط التي أفرزتها. يرى العروي أنه لا يمكن فهم التاريخ العربي الإسلامي، إلا ضمن التاريخ الإمبراطوري الذي يميز الحضارات المتوسطية القديمة، ولهذا فهو يقترح أربعة أنساق حضارية كبرى، يكون الإسلام ضمنها، تجيب عن أسئلة الوجود والموت والحياة والإنسان، هي النسق الميثولوجي والنسق الميتافيزيقي والنسق الثيولوجي، ثم حضارة العلم التي لم تكتمل بعد. في المقابل لا يجد محمد أركون أية ثمرة لحوار الأديان، أو أية محاولة للتقريب بينها، ذلك أن الدين وفقه منظومة نهائية الرؤى والأحكام، وعليه فهو يقترح «التضامن بين الأديان» بديلاً قد يضمن عدم صدامها. تنبأ أركون عام 1997 بأن حراكاً ثورياً عربياً سيحدث بعد سنوات قليلة، آملاً أن تحدث طفرة نوعية على كافة المستويات، وهذا ما حدث في سنة وفاته (2010)، غير أن إسماعيل مهنانة عبّر عن عدم انتظاره أي شيء من ذلك «فكل الانتخابات التي ستجري في السياق العربي، إما ستؤدي إلى وصول الإسلام السياسي إلى السلطة، وإما انفلات الطائفية». إذاً سيكون على فكر الاختلاف، وفق مهنانة، أن يخوض في دروب جديدة، تتطلب مقارعة القناعات المختلفة والمتنازعة، وفسح المجال لثقافة السؤال، والانحياز إلى «اعتبار التراث ليس ما نتركه في الماضي، بل ما يقبل علينا من المستقبل».