أحد أيام الثلثاء من عام 1993، في أحد مقاهي وسط البلد، والمكان يضج بالحركة وأنا مستوحش برفقة أحد الأصدقاء أنتظرك ولا أعرفك: بعد فترة دخل شاب طويل وأقرب للنحافة، عرفت أنه أنت، ورأيت حينها أنك تدعي البساطة والتواضع، بخاصة وأنت تتحرك بين الكراسي تجمع أوراقاً متنوعة لمجلة تشارك في إصدارها. لا تغضب – فبيننا اتفاق على الصراحة، لم أشعر بارتياح تجاهك حينها، ربما لأنه استقر بعقلي أن من سلطتك الموافقة على نشر قصيدتي أو رفضها، وربما لأنني ظننتك طليقاً تفعل ما تُحب بينما كنتُ مقيداً إلى الطب والمستقبل والأسرة وفشل حبي الأول وبداية اشمئزازي من العالم، ولا أعرف إلى أين تقودني خطواتي. هكذا كان الانطباع الأول، لم أكرهك – والله – فقط شعرت بالقلق، لكنها عاداتي، فأنا دائماً أشعر بالقلق عندما أرى الناس للمرة الأولى، ويتملكني هاجس مشوش تجاههم وكأنهم يتآمرون عليَّ، لا ليس هكذا – فهذه مبالغة، أظن يتهامسون عليَّ مناسبة أكثر. لكن يبدو أن التجاور في المقاهي ينشر بين الناس شعوراً مبهماً بالاعتياد وربما بعض الراحة. هكذا ثلثاء بعد آخر، ونقاش تلو آخر، ضحكة من القلب مرة وابتسامة فاترة مرات أخرى. أكواب شاي تدور وفصول تتغير ووجوه لا يفارقها القلق حتى في ذروة الاستعراض أو النشوة بكتاب تكلفتُه مقتطعة من اللحم الحي. ونقول أصبحنا أصدقاء، فهل تنشأ بين الأحجار المتراصة صداقة؟ تصوَّر – لم تقل لي، ولن أعرف أبداً، ماذا كان شعورك عندما رأيتني للمرة الأولى؟ تلك الأسئلة الغريبة التي لا إجابة لها ورغم ذلك نطرحها، هكذا ببلاهة الأطفال عندما ينظرون إلى وجوه آبائهم ويسألون: كيف جئنا إلى الدنيا؟ ولما لا يجد الآباء إجابة مناسبة، يستعيرون بعض البلاهة من وجوه أطفالهم ثم يقولون مثلاً: الله أرسلكم إلينا لأننا نطيعه في كل شيء، أنتم مكافأة الله لنا. ومن يستطيع أن يتوقع حينها ما ستنطق به الأفواه الصغيرة؟ وما الذي يستطيعه «الآباء/ الكبار» المساكين عندما تتدافع إليهم تلك الكلمات:- عمُنا رجلٌ شرير يا أبي.- عيب يا أولاد، عمكم رجل طيب. – لا، شرير، لأن الله لم يرسل له أطفالاً مثلنا! فهل تظن يا صديقي أن الله أرسلنا للمقاهي كي نتقابل؟ تصوَّر – الآن أرى المقاهي مثل شِباك صيدٍ ونحن مجرد أسماك خدعها البريق، أو كما قال أحد المجانين (أُفضلُ وصفَ غير المدجنين)، الذي قابلتهم: «إذا كان الإنسان ينتحر بالقفز في الماء، فالأسماك تنتحر بالقفز في الشِباك، أهو كلُه انتحار». فما الذي يجعل للحياة قيمة؟ وما الذي يجعلنا نوزع أيامنا على الشوارع والمقاهي ومكاتب المجلات ودور النشر؟ ما الذي يجعلنا نفكر في الحياة أكثر حتى من محاولة أن نحياها؟ نحن المخلوقات شاحبة الوجوه غالباً، والتي تخاف كل شيء. تخاف الحياة كما تخاف الموت، وتخاف الكلام كما تخاف الصمت، تخاف الوحدة كما تخاف الآخرين والزحام، تخاف من اللصوص والشرطة وبنات الليل والعشيقات والزوجات، تخاف من الأحلام. هكذا يا صديقي التقينا في أحد المقاهي، ووزعنا أيامنا ببساطة بين نظرة عين – ارتجافة نهد أو اهتزازة مؤخرة. سنتغاضى عن نقائصنا الكثيرة وعن الخيبات التي تركت آثارها على كل شيء فينا. ونقول: نحتاج بعضنا البعض، ولا يوجد شخص كله عيوب. تلك أحزاننا ولن نستطيع الحياة من دون الهمس ببعضها إلى الآخرين. أصدقاء على الخيبات والأحزان، نتبادل طعم المرارة في حكمة وحبور، ونعيد ترتيب المواقف والأحداث، ونتعمق في التحليل، ونبدو فوق كراسي المقاهي كما لو كان فلاسفة اليونان قد خرجوا من الكتب، أو كأننا لا نحمل في جيوبنا بضعة جنيهات ونكذب حتى على أجسادنا ونحن نرتدي جوارب وملابس داخلية بالية. هكذا نتبادل الأكاذيب ببساطة، حتى ونحن في لحظات البوح بما يثقل الصدور، أي شيء يثقل الصدر. أي شيء لا يثقل الصدر. تعال نتابع ذلك لمرة، تعال نتابع المشهد عن بُعد... ياااه – ألهذا الحد نبدو في جلستنا ليس فقط مصدراً لإثارة السخرية بل والأسى؟ فمن بعيد تتكشف تلك التفاصيل التي يحجبها القُرب، ومن زمان ومقاهي المثقفين تبدو مثل سيرك يضم بعض الحيوانات العجوزة التي لا تتقن شيئاً سوى الإيماءات الغريبة وحركات الأيدي المرتبكة.