يحكم التناقض وعدم الانسجام تصرفات القوى السياسية الداخلية حيال معالجة أزمة لبنان الرئيسة التي هي الشغور الرئاسي، فمعظم الفرقاء يدعون في أدبياتهم السياسية إلى إنهاء هذا الشغور من دون انتظار التطورات الخارجية الإقليمية والدولية والاتفاق الإيراني - الدولي على النووي أو الحوار الإيراني الأميركي أو الإيراني - السعودي، ثم لا يلبثون أن يربطوا بطريقة أو بأخرى الاتفاق على اسم الرئيس العتيد بالمعادلة الخارجية. فقوى 8 آذار تدعو إلى انتخاب الرئيس انتظار إيحاء من الخارج لكنها تصر على دعم ترشح زعيم «التيار الوطني الحر»، العماد ميشال عون، في ظل اعتقادها أن المحور الذي تنتمي إليه حقق انتصارات في المنطقة تحتم وصوله إلى الرئاسة. وترى قوى 14 آذار أن الرئيس يجب أن يأتي على قاعدة متوازنة وليس على أساس غلبة فريق بسبب تقدمه على الصعيد الإقليمي لأن المعادلة الإقليمية متحركة وقابلة للتغيير، ما يوجب تحييد لبنان والإتيان برئيس تسوية. ومع استمرار الجدل والمراهنات، فإن دعوة «حزب الله» فريق 14 آذار إلى التسليم برئاسة العماد عون تستند إلى الخريطة الإقليمية، فالأمين العام للحزب السيد حسن نصرالله دعا المعسكر العربي المناهض للتوسع الإيراني إلى قراءة التطورات في اليمن والعراق جيداً، في 16 شباط (فبراير) الماضي، فضلاً عن تهيؤه لكسب المزيد من المواقع العسكرية مع الجيش السوري وسائر الميليشيات المدعومة من طهران، في سورية وصولاً إلى دعوة الجيش والحكومة في لبنان للتنسيق مع جيش وحكومة سورية لطرد المسلحين من جرود منطقة القلمون مع ذوبان الثلج. وتلفت أوساط متابعة للحوار بين تيار «المستقبل» و «حزب الله» إلى التباعد حول سبل إنهاء الشغور الرئاسي الذي تكرّس في الجولة السابعة التي عقدت الاثنين الماضي. حيث اعتبر الحزب أنه تتوافر في العماد عون مواصفات الرئيس الذي لا يخضع للشروط والضغوط الخارجية، وتمثيله الصحيح للمسيحيين، فيما رأى «المستقبل» أن هذا لا يؤمن لعون الشرط التوافقي حول شخصه طالما لم يحظ بتأييد الفرقاء المسيحيين الآخرين. الحزب لا يحتمل وفي انتظار الجولة الثامنة للحوار في 18 الجاري، فإن الموقف الأخير لكتلة «المستقبل» كان الأكثر وضوحاً في عدم تحبيذ دعم ترشح عون حين اعتبرت أن «حزب الله» يحاول فرضه مرشحاً وحيداً، متهمة الحزب بتحويل البلاد «رهينة حتى إيصال مرشح بعينه». وإذ بررت الكتلة هذا الموقف بأنه رد على دعوة رئيس المجلس السياسي في الحزب السيد إبراهيم أمين السيد إلى التفاهم مع عون كمدخل للذهاب إلى المجلس النيابي، فإن مصادر «المستقبل» تكرر القول في معرض تأكيدها على الموضوع الخلافي الأساسي مع الحزب وهو رفض تدخله في سورية والعراق، أن عون لم يقدم لأي فريق حتى الآن أي ضمانات بأنه لن يأخذ لبنان إلى الخيارات الإقليمية التي توغل فيها «حزب الله»، بحيث يصبح رأس السلطة متبنياً لها. وفي المقابل يقول محيط العماد عون أنه لن يقدم لقوى 14 آذار أي ضمانات حيال موقفه من أجندة الحزب. كما أن مصادر «المستقبل» تشير إلى أن العماد عون أوحى أكثر من مرة أنه لا يستطيع الخروج عن التزاماته بالتحالف مع الحزب، لأن الأخير لن يحتمل ذلك، سواء إذا اتخذ خيار النزول إلى البرلمان لتأمين النصاب من دون موافقة الحزب، أو إذا عارض تدخل الحزب في سورية والعراق وعاكس التزاماته الإقليمية. وهي تعتبر أن عون يتخوف من رد فعل الحزب إذا خرج عنه. وإذ يقضي ربط خيار الحزب للرئاسة، بموقعه الإقليمي (البديل للعماد عون هو زعيم «المردة» النائب سليمان فرنجية)، فإن رفض الفريق الآخر هذه الخيارات يبقي الرئاسة أسيرة الموازين الإقليمية خصوصاً أن لقوى 14 آذار في المقابل رهاناتها، إذ أنها لا ترى أن تمكّن إيران ومعها الحزب من توسيع نفوذها مسألة نهائية. وهذا يجعل ملء الشغور الرئاسي مسألة متأخرة إلى أجل غير مسمى. تعقيدات القوة المشتركة وتتطلّع قوى 14 آذار إلى ما تسميه التقارير الإعلامية والديبلوماسية، المحاولات العربية، خصوصاً الخليجية لاستعادة التوازن الإقليمي، بعد الانفلاش الإيراني في العراق واليمن وسورية ولبنان، واستمرار التدخل في البحرين... وترصد كيفية ترجمة المجتمع الدولي رفضه ذلك، في موازاة الإصرار الأميركي على إنجاز الاتفاق مع طهران على الملف النووي، بعد تصريحات وزير الخارجية الأميركي جون كيري في الرياض عن أن بلاده «لن تغفل عن نشاطات إيران وتدخلها في الشؤون الداخلية للمنطقة». كما تترقب هذه القوى وسائر المراقبين نتائج المبادرات السعودية لترتيب البيت العربي بالتنسيق مع مصر ولمعالجة التباينات مع تركيا، في محاولة لاستعادة هذا التوازن الإقليمي. وتشير معلومات مصادر مواكبة لهذه المبادرات، إلى أن فكرة إنشاء قوة عربية مشتركة لمكافحة الإرهاب، وحفظ الأمن الإقليمي التي طرحها الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي، ربما تشكل منطلقاًَ لهذا التوجه، خصوصاً أنه بات معروفاً أنها نوقشت في القمة السعودية المصرية الأخيرة، في سياق خطوات منها: 1 - خفض منسوب الخلاف بين تركيا ومصر تدريجاً، بموازاة معالجة الخلافات التركية - القطرية، بدءاً بالسعي إلى استيعاب بعض قيادات تنظيم الإخوان المسلمين في مصر، وتمييزهم عن التشكيلات التي تنفذ عمليات إرهابية، لعل ذلك يريح القاهرة في حربها مع الإرهاب، على طريق ما تسميه القيادة المصرية استعادة العافية الداخلية. 2 - أن يكون الجيش المصري العماد الأساسي للقوة العربية المشتركة، مع احتمال وصول عديدها إلى زهاء 100 ألف جندي، وأن تبدأ في الانتشار في منطقة الخليج، لا سيما في مناطق حدودية مع اليمن ولمواجهة احتمالات التمدد الإيراني نحو باب المندب، ما يهدد أمن دول الخليج والملاحة فيه. وفيما يطرح بعض التكهنات الأسئلة حول ما إذا كان لهذه القوة دور على صعيد مواجهة احتمالات الانخراط الإيراني المباشر في العراق، فإن الأوساط المتابعة لمشروع القوة العربية المشتركة تشير إلى أن فكرة إعادة التوازن في المنطقة لا تشمل العراق، حيث هناك شراكة أميركية - إيرانية في محاربة «داعش»، بدليل اعتماد واشنطن على التدخل الإيراني المباشر في المعارك الدائرة في تكريت ضد «داعش». 3 - التمهيد لطرح هذا الاقتراح على القمة العربية المنتظرة في مصر في 28 الجاري تحت مظلة اتفاقية الدفاع العربي المشترك، في ظل معلومات عن أن تركيا لا تعارض هذا التوجه. إلا أن هذا التوجه دونه عقبات حتى الآن منها أن اتفاقية الدفاع العربي المشترك تحتاج إلى تعديلات لتتماشى مع التطورات الحاصلة، إذ هي وضعت في أواسط القرن الماضي. ومن العقبات أيضاً أن هذه القوة إذا كانت تهدف إلى التدخل في دول عربية بات للإرهاب فيها ملاذ آمن، مثل تمدد «داعش» نحو ليبيا، فإن التدخل المصري في ليبيا لقي اعتراضاً من دول مثل الجزائر وتونس، ولم يلق تأييداً من واشنطن ودول أوروبية... وعليه فإن التعقيدات التي تواجه المعادلة الإقليمية تزداد بحيث يبقي ربط الرئاسة اللبنانية فيها على الشغور سيد الموقف.