إسقاط نظام صدام حسين قدّم هدية استراتيجية كبرى لإيران، بلورتْ على إثرها سياستها الخارجية الهجومية في المنطقة وتجاه الغرب، فتبنتْ دوائر صنع القرار في إيران بعد هذا الحدث التاريخي قراءة استراتيجية ترى أنّ تمديد نفوذ إيران في المنطقة (بكل الوسائل) يقابل لحظة سانحة يجب أنْ لا تفوّتْ. وهذه القراءة الاستراتيجية والسياسة الخارجية الهجومية التي خلقها تحالف نجاد - الحرس الثوري - خامنئي، قامتْ على أنّ ثمة فراغاً استراتيجياً في المنطقة وعلى إيران أنْ تعمل لكي يكون ملئه لصالحها، فعملتْ على إيجاد مواقع للنفوذ عبر اختراق الدول من خلال قوى أو تيارات أو جماعات وأحزاب مناصرة لإيران في تلك الدول، قد يصل الدعم الإيراني لها مداه عبر دعمها عسكرياً وتبنيها سياسياً. حدث هذا في العراق وفي لبنان وغزة، ويحدث الآن في اليمن. إن التدخل في شؤون المنطقة جزء من استراتيجية إيرانية تجد صورتها إلى نفسها وإلى دورها في هذا التدخل، ولعل هذا ما يقبع في طيات تصريحات نائب الرئيس الإيراني، إسفنديار رحيم مشّائي، منتصف تشرين الأول (أكتوبر) الماضي حين قال: «واشنطن أدركتْ أنّ إيران هي أهم دولة في أهم منطقة في العالم» مشدداً على أنّ «ما من حلّ مناسب لمشكلات المنطقة من دون إيران». في هذا السياق، إيران تنظر إلى نفسها كدولة إقليمية كبرى في المنطقة وتريد القول: «إنّ ما يجري في المنطقة يهمني، ولذلك أتدخّل في ما يجري: في البحرين واليمن والعراق والإمارات... ليس فقط كحامية للشيعة واختطافهم من دولهم، بل أبعد من ذلك أيْ التصرّف كدولة إقليمية كبرى، وما البرنامج النووي إلا جزء من هذه الاستراتيجية والنظرة». هنا لا تميّز إيران بين نفوذ إيجابي عماده لغة الديبلوماسية الناعمة والمصالح المتبادلة وإقامة الشراكات وتقديم نماذج في الحرية والديموقراطية والتنمية... وبين نفوذ سلبي يتم بانتهاك حدود الدول وسيادتها وإثارة الانقسامات بين مكوناتها السياسية أو الاجتماعية أو المذهبية واتقان لعبة استضعاف الدول والحكومات وتفكيك شرعيتها. أما المحتوى الخطابيّ المضمونيّ الذي تسوّغه هذه السياسة الخارجية الهجومية، فهو أنّ إيران «ثورة» أكثر بكثير من كونها دولة تعترف (بقناعة كاملة لا ينالها الشك) بأن عالم اليوم هو دول وحدود وسيادات وطنية ومواثيق دولية واحترام للقوانين. الثورة، إذْ تطغى على منطق الدولة، تبيح انتهاك كل هذه المفاهيم من دون أن يرفّ لها جفن، أو يغشاها وخز للضمير؛ ذلك أن الثوار في تجاربهم المتعددة، شرقاً وغرباً، لم يقيموا، في الغالب الأعم، وزناً ذا شأن لمفاهيم تسود بين الدول مثل «حُسن الجوار» و «احترام سيادات البلدان». ويبلغ الأمر مداه حين يتم التدخل تحت ذرائع شعبوية (مقاومة قوى الاستكبار...) أو دينية أو أفكار طائفية أو مذهبية خاصة، ترى في مثل هذا التدخل في شؤون الدول نُصرةً للمستضعفين أو تمهيداً لتخلّق فكرة دينية والتعجيل بجلبها، وفي قلب ذلك فكرة الإمام المهدي. ويتوازى مع ذلك الهُزءِ بالسيادات الوطنية ومفهوم الدولة أن يكون مفهوم «الأمة» أو «الثورة» بديلاً منها. فالذين يدركون مفاهيم السيادة والحدود والدول رأوا في هجمات الحوثيين على الحدود السعودية انتهاكاً لسيادات الدول، فيما رأى من يُقدّم الأمة على الدولة (هل يمكن قراءة موقف جماعة الإخوان في مصر ضمن هذا السياق) والطائفة على الدولة (هل يمكن قراءة موقف نواب جمعية الوفاق البحرينية الشيعية من عدم التوقيع على بيان تضامن مع السعودية ضد الحوثيين في هذا السياق؟) ... رأى هؤلاء الأخيرون أنه لا يجوز الاعتداء على المسلمين من دون استهجان لسلوك من يتدخل في شؤون الدول ويعتدي على حرمتها وسيادتها وحدودها ويعتدي على هيبتها!!. وعليه، لا عجب أنْ نسمع من مسؤولين إيرانيين حديثاً عن أنّ الدعم الإيراني للحوثيين ضد اليمن والسعودية لا يُشكّل مخالفة دستورية أو قانونية. وهؤلاء المسؤولون يشيرون في ذلك، على ما يبدو، إلى البند السادس عشر من المادة الثالثة في الدستور الإيراني التي تنص على أنّ «تنظيم السياسة الخارجية للبلاد (يقوم) على أساس المعايير الإسلامية والالتزامات الأخوية تجاه جميع المسلمين، والحماية الكاملة لمستضعفي العالم». واستطراداً أتساءل: أليس هذا السياق الفكري - السياسيّ هو ما يفسّر ما طالعتنا به صحيفة «التايمز» البريطانية (14/11/2009) حين نقلتْ بأنّ «ممثل المرشد الأعلى الإيراني في بريطانيا، عبد المحسن معزي، دعا المسلمين في بريطانيا إلى الاستقالة من الجيش البريطاني، مشيراً إلى أن الإسلام يمنعهم من القتال في كل من العراق وأفغانستان»؟!. * كاتب أردني