كل قطرة منه أكبر من حبّة الماوردي، وأدكنُ حمرةً من قطرها، وأغزر. مطر من دمٍ هو. لا سماء ولا كواكب. لا ليل ولا نهار. شرفات هي من دم. حدائق هي من دم، وأزقة، سررٌ وفُرُش من دم وألسنة وعيون، وهذا الصبي الذي ينبش في الحاوية، وهذه الحاوية التي تنبش في قنبلة، وهذه البذلة المرقطة من دم، وهذه الشاشة من دم، وهذا المطر دم لزج لوهلة مثل بيلة العجوز، ولوهلة أرقّ من بيلة الوليد، وأنا... في الربيع الثالث قبل هذا الربيع أبرقت وأرعدت، وسورية المستمطرة منذ أربعين سنة، بل منذ خمسين، تتشوّف. وأنا، وهو، وهم، وهنّ، وأنتَ، وأنتِ – ما من نحن – نتشوّف، ولم تبخل السماء ولم تتأخر، إلا أن المطر سرعان ما تبقّع. في الربيع الثاني قبل هذا الربيع، صحّ فينا القول: «وأمطرنا عليهم فساء مطر المنذرين». وفي الربيع الأول قبل هذا الربيع صحّ فينا القول: «وأمطرنا عليها حجارةً من سجيل». لذلك ما بقي لي، مثل أي سوري، ما ألاقي به هذا الربيع إلا أن.... *** لهذا المطر /الربيع/ الدم منذ أربع سنوات إلى هذا اليوم حسب التقويم السوري، يقوم هذا المتحف السوري للبيوت المبعوجة والعمارات المدثورة والأشجار المقصوفة والتراب الملزّج بمطر الدم. والمتحف هو بخاصة للمقتنيات المنهوبة والخرائط الممزقة ومخططات حيتان الأمس، أي حيتان الغد، لإعادة الإعمار. والمتحف هوأيضاً لهذه اللوحة التي خصّ بها بيسان أبو عيش المقدسي مخيم الزعتري: كارافان على أربع جرار للغاز، أي: مقام يكتنز الانفجار، أي: مكان قابل للانفجار في أية لحظة وبلا سبب أو بسبب. هكذا كانوا في الزعتري ينقلون الكارافان على دواليب /جرار مطر الدم الملزّج. *** وعملاً بالتقويم السوري منذ أربع سنوات إلى هذا اليوم، أعاروني – جميعاً – ألسنتهم، بعدما قطعوا – جميعاً – لساني، فتهجدت بلسان إياد حياتلة: اليوم الأربعاء يتسلل الشهداء الحماصنة من قبورهم في غفلة من الجميع يتبادلون النكات يهزؤون من قاتليهم ثم يعودون إلى النوم حالمين بخميس الحلاوة. وبلسان منحوتة لعاصم الباشا هتفت: المجموعات المقاتلة التي تكونت على أسس دينية، لا تمثلني على الإطلاق، لأنها تعد بطغيان لايقل سوءاً... وبلسان رفيق شامي تمتمت: العشيرة قد تثور، لكنها ليست أبداً ثورية. ومن وكنةٍ من الوكنات الأفغانية المطيرة دماً، أعارني كلنور بهمن لسانه فأنشدت: أيتها الحرية هل سترفعين علماً على برج هذه الليلة الدامية قبل أن تكف ساعة العالم عن الدوران؟ عندئذٍ تراءى لي كما تراءى لكثيرين وكثيرات من ذوي الألسن المقطوعة والألسن المستعارة، أن ساعة العالم هي الساعة السورية التي قد تكون توقفت عن الدوران، أو ربما ستتوقف إلى أن يستوي التقويم السوري، فيتوقف هذا المطر الذي هو من دم، وكل قطرة منه أكبر من حبة الماوردي، وأدكن حمرةً من قطرها، وأغزر.