لا يزال سؤال النهضة القديم - الجديد عن أسباب تخلف المجتمعات العربية مقابل تقدم الغرب، محورياً في النقاش السياسي والفكري لدى المثقفين العرب، ومعهم الحركات السياسية المتعددة الأهداف. تتنوع الأجوبة وفق الخلفية الأيديولوجية التي ينطلق منها كل طرف، بما ينتج أجوبة متناقضة، منها ما يصبّ في الموضوع مباشرة، ومنها ما يقع خارج الفهم الصحيح للأسباب والمعضلات، فيعطي أجوبة ديماغوجية ومضللة. تنبع الأجوبة من خلفية يغلب عليها تبرير العجز والتخلف برده إلى عوامل خارجية يقف على رأسها الغرب الهادف إلى الهيمنة على المنطقة واستغلال مواردها ومنع تقدم المجتمعات العربية، وذلك من دون إيلاء الأهمية التي يستحقها التدقيق في دور او موقع البنى الاجتماعية العربية القائمة. يبدو «المرض بالغرب» واحداً من استعصاءات تجاوز العقد «الشرقية-العربية» من المجتمعات العربية، ومانعاً لإدراك الحقيقي وغير الحقيقي في كيفية التعاطي مع الغرب وخصوصاً ما يتصل بالجانب الحضاري منه. لا تنطلق النظرة العدائية والمشككة في أهداف الغرب تجاه العالم العربي من فراغ، أو من تجاهل واقع فعلي يستوجب تحفظاً في هذه العلاقة. فالغرب مارس استعماره على المنطقة، وتلاعب بكياناتها وركّب معظمها وفقاً لمصالحه السياسية والإستراتيجية، وتسبب في زرع الكيان الصهيوني في المنطقة، وعاد يمارس دوراً استعمارياً عسكرياً مباشراً منذ سنوات عدة. هذا كله صحيح، ولا يجوز للمجتمعات العربية تجاهله، بل يجب أن يظل حاضراً في السياسات العربية. لكنّ هذا التناقض الموضوعي يشكل واحداً من عناصر العلاقة، بحيث تجب رؤية الجانب الآخر المتصل بحاجة المجتمعات العربية إلى علاقة مركبة مع الغرب، تميّز فيها بين الجانب السياسي، ما يستوجب من العرب تضامناً وتغليباً لمصالح مجتمعاتهم، وهي هنا بالتأكيد مصالح لا تتلاءم وأهداف الغرب، فيما تجب رؤية الجانب الحضاري الذي وصل اليه الغرب وبات يكتسب طابعاً عالمياً يستحيل على أي مجتمع يرغب في الخروج من التخلف من دون التلقّح بمنتجاته والتفاعل مع ثورته العلمية والتكنولوجية، ناهيك بمجمل التراث الإنساني والسياسي الذي حصله على امتداد قرون في سياق التقدم والحداثة على كل المستويات. تنتصب مقولة الغزو الثقافي الغربي لمجتمعاتنا العربية، في وصفها عنصراً مرضياً يضع حواجز أمام العقل العربي في التعاطي الموضوعي مع الفكر الحضاري الغربي. يقوم الادعاء العربي على أنّ تهديداً للهوية والتراث والحضارة العربية يجرى العمل عليه لتقويض التراث الإنساني العربي - الإسلامي الموروث منذ قرون. وتتركب استناداً إلى ذلك نظريات في المؤامرة لا حدود للخيال في تعيين شباكها وأهدافها «الجهنمية». يجرى اتهام العولمة بوصفها الأداة التي يتحقق عبرها هذا الغزو الثقافي، من خلال ما تبثه من ثقافة استهلاكية، ونشر فكر يتناقض مع الموروث العربي، ولا يتوافق أيضاً مع التقاليد السائدة في مجتمعاتنا، مما يجعل هذه العولمة في طليعة «الأعداء» المفترض مكافحتهم والتصدي لهم. لا يستطيع أحد اليوم تجاهل التطورات التكنولوجية وعلى الأخص منها ثورة الاتصالات التي اختزلت العالم في الزمان والمكان، وجعلت نتاجها يخترق المجتمعات بمؤسساتها الصغيرة والكبيرة، كما اخترقت الحياة الخاصة للفرد في كل مكان من العالم، وتحكمت في مجمل تصرفاته، أراد ذلك أم لم يرد. والعولمة بهذا المعنى تشكل المجال الأساس لنشر الفكر العلمي والإنساني من خلال ما تقدمه من ميادين تساعد على وصول نتاجها إلى كل مكان في العالم، وهي بهذا المعنى تشكل عنصراً ايجابياً في تقدم المجتمعات، ويبدو الدخول فيها أحد الشروط الضرورية لتجاوز المجتمعات العربية تخلّفها، ما يعني ان مجتمعاتنا العربية لا تعاني اختراق العولمة لها، بمقدار ما تعاني عدم هذا الاختراق. صحيح أنّ العولمة تحمل الجانبين السلبي والإيجابي في اختراقها المجتمعات البشرية، وصحيح أيضاً أنها تطرح تحديات على هذه المجتمعات لجهة الإفادة مما تقدمه من معطيات تساعد في التقدم، وتكافح الآثار السلبية الناجمة عنها، لكنّ المؤسف أنّ الكثير من مثقفي العالم العربي لا يزالون يرون في العولمة هذا الجانب المهدد للتقاليد السائدة، وتجاهل المسؤولية العربية في التصدي لها، في وقت يجرى تغييب الجوانب الإيجابية للعولمة التي تحتاجها مجتمعاتنا بقوة. يقوم عنصر آخر في «المرض العربي» في نظرته إلى الغرب عبر هذا الاجترار الدائم للتذكير بدور العرب الحضاري، وكونه شكل عاملاً مركزياً في الحضارة الغربية ونهضة المجتمع الأوروبي. تظل الحضارة العربية - الإسلامية، بالتأكيد، موضع فخر عربي، لكن التجمّد عندها والنظر إليها بوصفها نهاية المطاف، باتا يشكلان عنصر إعاقة في العقل والفكر العربيين. أفاد الغرب من حضارتنا، ولكنه تجاوزها بما لا يقاس من خلال التطور الحضاري الذي حققه على امتداد القرون الماضية، بحيث باتت منجزات الحضارة العربية محدودة قياساً على الواقع الحضاري الراهن. لم يعد يفيد العرب تذكير الغرب بأننا آباء حضارتهم، فيما تقيم مجتمعاتنا في القرون الوسطى التي عرفها الغرب عندما كانت الحضارة العربية تعيش عصرها الذهبي. فالعرب بحاجة اليوم إلى تجاوز التشبث بالماضي وسلوك المسار الذي سار عليه الغرب في العلم والفكر والتقدم. مما يعني أنّ العرب اليوم بحاجة ماسة إلى الاكتساب والتعلم من حضارة الغرب والنهل من تراثه الإنساني، على غرار ما قام به الغرب قبل خمسة قرون. لا يمكن إنكار الأثر السلبي الذي يتركه انفجار بنى المجتمعات العربية وصعود العصبيات الطائفية والعشائرية والإثنية في هذا الارتداد الى الماضي، وارتفاع منسوب العداوة تجاه الغرب. وهو خزان تغرف منه اليوم الحركات الاصولية الساعية إلى إعادة المجتمعات العربية قروناً إلى الوراء، عبر تكريس ثقافة ماضوية ترفض بموجبها منتجات الحضارة الإنسانية، وتصنفها في خانة التعدي الغربي على تراثنا وأفكارنا. تحتاج المجتمعات العربية إلى نقاش مع ذاتها أولاً ومع المعوقات البنيوية التي تمنعها من رؤية موقعها العالمي والمحلي في ظل ما أصاب العالم من تحولات. كما تحتاج إلى الخروج من عقدة النقص تجاه الآخر المتقدم، وتستبدلها بانفتاح وسعي الى التعلم ونقل ما يلزمها لفك الحجر عن النمو المتعدد المجالات الذي تحتاجه بقوة. * كاتب لبناني.