ما على الولاياتالمتحدة الأميركية، قبل انتخاب أوباما الى الرئاسة وبعد انتخابه، معالجته والتعاطي معه هو نشوء «باقي العالم» وقيامه وجهاً لوجه مع الولاياتالمتحدة. و «باقي العالم» هو قوة الصين الجديدة، وخروج الهند من دائرتها وركودها، واقتفاء البرازيل وأندونيسيا وغيرهما آثار الدول الكبيرة والناشئة هذه. ويتصور التغير على شكل وجه جديد للعالم وللعلاقات الدولية. ولعل باراك أوباما نفسه ثمرة التغير هذا وعامل مؤثر في تسريعه، وجلاء أسبابه: ولا يخامرني شك في أن انتخابه لم يكن ممكناً لولا وعي الناخبين الأميركيين بقدوم عالم جديد، وبمؤهلات أوباما لاستقباله. فإذا طرحت الحوادث مصير بلدان مثل أندونيسيا وكينيا على المحك، تصدى للأمر تصدي العارف الخبير، فهذه البلدان ليست معاني مجردة في ذهنه، وعلاقته بها شخصية. وهذا جزء جوهري من هويته. وفي مستطاعه الانتقال من محل الى آخر، ومن ثقافة الى أخرى، وتناول طريقتين في التفكير، وفهم الآخرين على نحو أفضل وأدق. ولا يتصور أحد أن رئيساً أميركياً غير أوباما كان قَبل على وجه السرعة الانتقال من مجموع (الدول) الثماني الكبيرة الى مجموعة العشرين. وهو ربما ما كان لينتخب رئيساً لولا الإطار الدولي الجديد، واضطرار الولاياتالمتحدة الى الإقرار به. والى هذا كله، يمثل أوباما على التخلي عن السياسة التي انتهجها بوش، وقدمت الهيمنة والسيطرة على العالم على ما عداهما من العلاقات، وينبغي الاعتراف بفضله في انتهاج طريق مختلفة في معالجة مسائل جوهرية مثل التعذيب والسجون السرية أو مثل قراره إغلاق غوانتانامو. ويقتضي تعريف دور الولاياتالمتحدة العالمي الجديد العودة الى 1989. فيومذاك تربعت الولاياتالمتحدة في سدة سلطان لم يسبق أن تربع بلد آخر في سدته في تاريخ البشر، فاجتمعت في يدها قوة تفوق قوة منافسيها كلهم. ولم يتهدد تفوقها في ميادين الأيديولوجيا والسياسة والاقتصاد والقوة العسكرية منافس فعلي. وهذه الحقبة طويت، انتخب أوباما أم لم ينتخب. وعلى الولاياتالمتحدة، اليوم، مفاوضة الصين دفاعاً عن مصالحها المالية، ومفاوضة روسيا على مستوى التسلح النووي العالمي، والاتحاد الأوروبي على حماية قواعد التجارة الدولية، والبرازيل على مكانتها في أميركا اللاتينية. وهذه الوقائع هي حقيقة الحال. والمستقبل سيقوّي حقيقة الاقتسام ويثبتها. ولا تزال الولاياتالمتحدة القوة الراجحة والمركزية. ولكن عليها المناقشة والتعاون، واقتسام سلطانها مع المناطق الناشئة في جهات الأرض الأربع. ولم تكن الحال على هذه الشاكلة في العشرين سنة الماضية. وهذا تغير لا عودة عنه. فهامش مناورة الولاياتالمتحدة تقلص تقلصاً جوهرياً. ونقر كلنا بأن الاستراتيجية الأحادية أخفقت من غير أن نتفق على نتائج التعددية المتوقعة. ونحن الى اليوم، لم نختبر بعد عمل عامل واحد من عوامل التعددية الدولية. وليس هناك نظام حالي واحد يرغب في حلول مثال جديد للعلاقات الدولية على الرغم منه، ومن مصالحه. والاحتمال الثالث، الى الأحادية والتعددية، هو اجتياز مرحلة من الفوضى، المقيدة الى حد ما والعامة. وهذا الاحتمال ليس ببعيد. وتظهر طلائع الفوضى هذه في مضمار التجارة الدولية. فالمعالجات في هذا المضمار تترجح في محلها من غير ثمرة. ويلاحظ أن البلدان الكبيرة تنكفئ على مصالحها. ويحول هذا دون التقدم على طريق المصالح العامة والمشتركة، بين أطراف التبادل التجاري وأقطابه، والشلل يسود حقولاً اقتصادية ودولية أخرى. فالشلل هو الغالب على مسألة التغير المناخي، وعلى اختيار موارد الطاقة القادمة، وسن قواعد جديدة تقر بها العلاقات الدولية. وعلى هذا، فنحن في مرحلة وسيطة وانتقالية من غير شك. والأعوام الخمسة القادمة حاسمة. فإرادة الولاياتالمتحدة صوغ مخارج وحلول للقضايا العالمية لن تعدم ردوداً متحفظة ومتذبذبة. ولا علاج للأمر إلا بانتهاج سيرورة طويلة ومتعرجة شريطة أن تؤدي الى نتائج فعلية وملموسة. ومجموعة العشرين، وغيرها من الأطر، هي بداية الطريق الى سن قواعد دولية جديدة، وبلورة تقدم فعلي. ويتولّى أوباما دفة الأمور على خير وجه. فهو يتصدى للمسألة الإيرانية على نحو يخالف النهج السابق، ويستعمل قدر المستطاع الدعم البريطاني والفرنسي والألماني، ويجتذب الى الضلوع في المعالجة روسيا والصين، ويقيم جسوراً هنا وهناك، ويحصد بعض النتائج الواعدة. فالصينيون يتكلمون على التغير المناخي ومسائل الطاقة فوق ما تكلموا من قبل. ويقبل الروس تناول الموضوع الإيراني في لغة جديدة ولو لم يختلف موقفهم. والأمر الحاسم، في آخر المطاف الديبلوماسي البطيء، هو الإجماع على حل لا خلاف عليه. فالولاياتالمتحدة لا يسعها شن حرب جديدة على ايران، يترتب عليها اجتياح بلد مسلم ثالث في غضون أعوام. وصدمة مثل هذه تؤدي لا محالة الى التفاف الشعب الإيراني حول النظام. والحق أن النهج الذي اختاره أوباما هو النهج المعقول الوحيد. ولكنه ينتهج في إعمال خياراته السياسية نهجاً متعثراً وقاصراً، على خلاف تعريفه الخيارات. وربما ينبغي أن يفوض بعض المهمات الى مساعديه، وتطعيم دائرة المساعدين بمستشارين أكفياء ومؤهلين للاضطلاع بملاحقة الإجراءات وتعقبها. وظهرت الحاجة الى مثل هذا الجهاز على نحو صارخ في شأن الدرع المضادة للصواريخ. فما أراد الرئيس إبلاغه أخفق إخراجه وتظهيره إخفاقاً ذريعاً. فالدرع هذه كانت هذياناً يفتقر الى الحقيقة العملانية. وصممت في وجه تهديد غير قائم، ومولت بمال لا نملكه. وحسم الأمر كان ضرورة عاجلة. ولكن الطريقة التي أبلغ بها البولنديون والتشيخيون كانت بائسة. ولم تدرك الإدارة خطأها إلا بعد ارتكابها إياه. وقد يكون السبب في تعثر التنفيذ والتطبيق افتقار أوباما الى مستشار استراتيجي فعلي من قماشة كيسينجر أو بريجينسكي. فركيزتاه هما روبرت غيتس، الآتي من الحزب الجمهوري، وهيلاري كلينتون التي وحدت الديموقراطيين حوله. والاثنان دعامتان سياسيتان، وليسا استراتيجيين كبيرين. فهو يحتاج حاجة ماسة الى مساعد مجرب وعلى بينة، وفي مقدوره ترجمة أفكاره أعمالاً وإجراءات ديبلوماسية مفصلة. وأولوياته هي الصين وروسيا والهند. والأوروبيون يريدون علاقة متميزة بالشريك الأميركي على مثال انقضى. فظروف العالم تغيرت تغيراً عميقاً، وأصحاب القرار اتسعت دائرتهم، ولا شك في ان لأوروبا محلها. وهي ترى دورها ضئيلاً في اطار شبكة الأدوار الكونية الجديدة. فما العمل؟ العالم الجديد يملي علينا خياراتنا. والأوروبيون قصَّروا عن الكلام والعمل بصوت واحد، وعن إسماع العالم صوتهم. وهذه مأساتهم الكبيرة. فلو شاؤوا لكان في مستطاعهم انتهاج سياسة خارجية واحدة، وبناء قوة عسكرية مشتركة. وهم نكصوا عن الأمرين. وهذا هو السبب في تعريف أوروبا فراغاً سياسياً عوض تعريفها قوة حقيقية ومؤثرة. ويتقدم غيابها حضورها. وهذه خسارة تصيب العالم كله، والولاياتالمتحدة في المرتبة الأولى. فأوروبا قوية وفاعلة كانت قمينة بتسديد مسار العلاقات الدولية وتصويبه. ولا يسع الأوروبيين الاضطلاع بدور راجح وهم عاجزون عن إرسال قوات تتولى الحسم، وليس قوات مساندة وحسب. فالزعم أن مهمة أوروبا هي تولي الآثار الجانبية للنزاعات، بينما يتولى الأميركيون القتال والحسم، حبله أو غاربه قصير، ولا ينجم عنه نفوذ حقيقي. ويبلغ اليوم عديد القوات الأوروبية 2.5 مليون جندي. فلو أنشأت دول الاتحاد الأوروبي قوة تدخل سريع ودائم تعد 250 ألف جندي، وجهزتهم ودربتهم على نحو يمكنها من انتدابهم الى الميادين الطارئة في أنحاء العالم، لتغيرت الأمور تغيراً واضحاً، ولكن الأوربيين يتمسكون بنهج يستغلق فهمه. ولو أن دول الاتحاد أسهمت بأفغانستان بنصف عديد القوات هناك لاضطر الجنرالات الأميركيون الى احتساب آراء زملائهم الأوروبيين من غير شك. وفي صدد أفغانستان، أرى أن هدف الحرب الأول هو الحؤول دون انبعاث «القاعدة» وتنظيمها هناك، واستئنافها عملياتها، على نحو ما كانت الحال عليه قبل 11 أيلول (سبتمبر) 2001. وآسف ألا يكون هدفنا جعل أفغانستان أرض تنمية أو بناء حكم مركزي بكابول. ولعل السبيل الناجع الى غايتنا هو عقد تحالفات مع قوى أفغانية مختارة. وبعض هذه القوى نتشارك وإياها المصالح، وفي وسعنا إقناعها بالتحالف معنا. والمقاتلون يمكن توفير الأمن والمال لهم واستقطابهم، على خلاف ما نفعل. وأفغانستان مفترق ثلاث دول كبيرة: الهند وعلاقتنا بها جيدة، ومصالحنا مشتركة، وباكستان، وهي تريد السيطرة على أفغانستان من طريق نشر الاضطراب فيها، وايران، ولا سبيل لنا الى مفاوضتها على رغم تقارب موقفينا من أفغانستان، وعلينا انتظار حسم طهران ما تريد. وليست إيران مشكلة تقارن بالاتحاد السوفياتي أو الصين في أثناء الحرب الباردة. ومن دواعي الفأل أن تقتصر البلدان الخطرة على إيران وكوريا الشمالية. وعليه، قلما كان الإطار الاستراتيجي الدولي ايجابياً على هذا القدر في التاريخ. * رئيس تحرير «نيوزويك إنترناشينال» وصاحب برنامج «فريد زكريا غلوبل بابلك سكوير» على سي إن إن، عن «لكسبريس» الفرنسية، إعداد وضاح شرارة