قد يسهل عليك أن تتحدّث عن شاعر مبدع أو تتحدّث عن روائي عذب أو عن سياسي حاذق أو ديبلوماسي فذّ أو أكاديمي صارم. قد يسهل عليك أن تتحدّث عن هؤلاء الأشخاص.. كلّ على حدة، فتعطي كل واحد منهم قاموس الوصف الذي يليق به، وطقوس المديح التي تفي بامتيازاته. لكن كيف تصنع حين تريد الحديث عن شاعر وروائي وديبلوماسي وأكاديمي.. في إنسان وآن واحد؟! كيف تتوحّد قواميس الوصف، وتصطف طقوس المديح في مشهد واحد؟ إنها عملية انتحارية.. محاولة الإقدام على تفجير مخازن الإبداع لدى غازي القصيبي! فهو محارب (غازي) لا يتوقف عن الغزو.. غزا الجزر الأكاديمية المعزولة فبقي فيها ما بقي، ثم صنع زورقه وهرب. غزا صحارى السياسة المهلكة.. فلم يهلك، بل عاد بقربة ماء أكبر من التي ذهب بها. غزا حدائق الديبلوماسية فظن البعض بأنه سيلدغ حتما بإحدى عقارب تلك الحدائق الخضراء، أو سيتسمّم في إحدى وجبات الديبلوماسية الوفيرة، لكنه لم ينج فحسب بل روّج للقاح مضاد للدغات والتسمّمات الديبلوماسية. غزا الشعر فقالوا هنا سيقتله الشعر كما قتل غيره من قبل، لكنه لم يُقتل بل أحيا الشعراء الذين قُتلوا من قبل. غزا الرواية فقالوا هنا سيستسلم، لكنه لم يمتنع عن الاستسلام فقط بل منع حتى أبطال رواياته من الاستسلام في نهاية الرواية أمام القرّاء. واستمرّ يغزو ويغزو، ولم يتوقف عن الغزو يوماً.. وأنّى له أن يتوقف وقد سمّاه أهله «غازي». لو أن كل واحد منّا سيصنع في حياته ما يليق باسمه لهلك الناس بأسمائهم.. بين جواد ومقدام وصيّاد وكمال وناصر ونمر. لكن (غازي) قبل تحدي أهله، وأعلن الغزو طوال حياته، لكن لحسن حظ الجيوش أن غازي استبدل الغزو المدني بالغزو العسكري، فكانت معاركه كلها بالإبداع.. يفتح قصيدة ويحرّر رواية ويستعمر قلب قارئ! واليوم يغزو (غازي) اليونسكو بسلاح الشعر المحشو بذخيرة العبودية والطبقية، ولكن أيضا المحشو بذخيرة الحرية وحقوق الإنسان. هنا في بيت الثقافة العالمي.. يستجلب الشاعر غازي مأساة الشاعر سحيم، وفاء بوعده لصديقه الذي أحرق قبل 1395 عاماً بحطب العبودية ولهيب الطبقية، بأن يعرض مأساته أمام حكماء العالم الذين يبنون الآن مواثيق حقوق الإنسان وينسجون أعلام الحرية والمساواة، ليعلنوا عن استنكارهم ل «المحرقة» التي تعرّض لها سحيم وآخرون قبله وبعده من ضحايا عدالة القوة ومساواة التحيّز . لكن سحيم عبد وضيع في صحراء عربية.. فمن سيلتفت إلى «محرقته» ومن سيأبه بمأساته من حكماء العالم الحر؟! هذا هو السؤال الذي سيثيره في أذهاننا شاعرنا، فهل سيستسلم غازي؟ هل رأيتم غازياً يضع سلاحه؟! *** (الكلمة التي افتتح بها الكاتب أمسية غازي القصيبي الشعرية في مقر منظمة اليونسكو بباريس يوم 7/4/2009). * سفير المملكة العربية السعودية لدى اليونسكو.