لي جدّة رحِمها الله، كانت تنعم بمخزونٍ كبير من القصصِ الخرافي، وتحفظ من أخبار السلفِ ما يمكّنها من أن تقصّ علينا في العشيّات، حكايا العربِ الأوائل، كعنترة والمهلهل وبعضٍ مِن ألاعيبِِ السحرةِ وخفايا الشياطين ما يغني عن ملاحم اليونان وهياكلِ الرّومان، وأعاجيبِ سليمان الحكيم. جدّتي هذه، تحفظ ولا تحلّل، تخبر ولا تنتقد. لم تعتبر يوماً أنّ حكاياتِها هي من الشعر المنثور، كما يشير معظم نقادِ وشعراءِ العصر، فهذا الفنّ، لم يوجد في زمنها. كانت تنشد الشعر، أجل، وترصّع محطّاتِ كلامها بأبياتٍ تردِّدها، فتحلو وقعاً وحماسةً، وتختلج فيها نبرات صوتها العذب، تخفق له قلوبنا، وتطرب أسماعنا، ولم تكن مناسبات الشعر عندها، غير خوارق تذهل العقول، وتثير العجب، وتحمل معها الأحلام إلى عوالم السحر وعزيف الجنِّ، وغرائبِ العفاريت، متوقفة عند بساطِ الرّيح، وقنديل علاء الدّين، والمهر الأخضر، والغولِ الهائلِ، والجنّيةِ الشمطاء، تقعد فوق جبلين، حيث أشجار الذهبِ وثمار الماس وغيرها. لا تفرغ جعبة جدّتي من قصصها الشيّقة والممتعة، فبين أخبارها ما يدعمه الشعر في السياقِ والأصول، وفي الحكايا كما في الشعر، مبالغة ومغالاة، وعامل إغرابٍ يتوافر ويهيمن فتمتاز شواهده بالفرادةِ لأنها بنت الاختراع وأخت الإعجاب، وسليلة الدهشةِ. في متاهاتها تترحّل الأذهان ويتحفّز الإبداع ويتعالى المحور المِثال، فيرتفع ويشمخ وصولاً إلى ما يقارب المستحيل. هنا، تتماثل المشاهد ولا تعدم تركيزاً على الحدثِ الأسطوريّ، لكأنّ الشعر فيهِ يقصر عن مجالاتِ الحكاية، ولا يصل إلى أدنى حدودِها. كذلك القول بالنسبةِ إلى تفاعلِ الرّؤى وتثبّتِ المواقف، حين تكثر الصور، ويحتضن الخيال بهارجها، متجاوزاً الواقع هروباً وانطلاقاً إلى اللامرئيّ واللاملموس، فيصحّ الانعتاق أحياناً، ويتحقق التخلّص من المادّيِّ التّرابيّ، للارتفاع إلى ما فوق المعيوش يتوسله الشعر وتغرب فيه الحكايا. ليس الواقع بأيّة حالٍ ميدان الشعر، ولا يتحكّم في الحكايات، فكلاهما ينطلق من الإيهام الذي يخترق المألوف، ويدخل في المجاز، فيتجسّد تصوّراً يعتبر من مداميك الحداثة، إن لم يكن من جسورها، الأمر الذي يجعل شعرنا اليوم، أكثر إلتصاقاً بالعاطفة، وتعلّقاً بالانفعال المشرق في النفوس، كما لو أنّه ابتهال، أو اعتماد آليةٍ للسحر، مع الجنّ واستحضار العجيب والتهويل والترغيب. مثل هذه الدلالات المشتركة، وغيرها من الخصائص المتداخلة، كانت تكفي لأن توجد الحكايات من دنيا التكوّن الخاصّ، فتلتقي مع شعرنا المنثور، ويتماهيان حول محور رئيس، يدور في فلكهما معاً، بحيث يحمل هذا الشعر وهذي الحكايا، راية فنّ ذاتيٍّ يتبلور بالأخصّ مع شاعر النثر الذي يتكوّن الشعر لديهِ متمايلاً على هواه، لا يلزمه قيد وأصول، ولا مرتكزات معيّنة... هو طائر غريبة أجواؤه، قصير جناحه، يطير، يحطّ، يذهب، يأتي، ينعطف، أو يسقط وينهض بلا مفاهيم وموازين، بلا نظمٍ تحدِّد مسيرته في شعابِ التوجّهِ إلى أيِّ خطٍّ أو هدفٍ أو غايةٍ يبلغ مداها. هكذا يسهل الشعر منثوراً ويحلو للشاعر ما يريده وما يبديه بلا كدٍّ ولا مشقة، لمعرفة كيف وأين يتفاعل... أيعتمد الغامِض في الإيحاء أم الواضح البيّن؟ وكيف ينتقي الإيقاع المناسب أو ما يسمّى إيقاعاً داخلياً! مع العلم أنّ كلّ كلام، له إيقاعه الداخليِّ الحاضر أصلاً في الحرفِ، في اللفظِ، في التنفّسِ، يظهر مزاجيّاً، شخصانيّاً، لا يقلّد ولا يلتمس، فأيّ إيقاعٍ مزاجيٍّ نتمثّل؟ عجباً! لكلامٍ يقال جميلاً ناعماً ويأتي إسماً بلا مسمّى... فراغاً بلا محتوى، خواء خداعٍ فاقعٍ، غريبٍ، لقيطٍ بلا هويّة، ترى فيه وجوهاً على آلاف القسماتِ وشتاتاً يختلط فيه الحابل بالنابل ولا يعرف الجواب حين يقال: ما هو الشعر المنثور؟ أهو نثر، أم شعر، أم بين بين؟ وأيّ شكلٍ يأخذ وعلى أيّ أساسٍ يركز ويتعمّم؟ لا تعرف جدّتي أنّ اللغة آلة الشعر وأنّ الكلماتِ والحروف، أصوات تصقل ولا تتبدّل إلاّ إذا تبدّلتْ وتغيّرت هويّتها. لذلك تختلف «النّوطات» الموسيقية مِن آلةٍ إلى آلة، والمعاني مِن لغةٍ إلى لغة. ولا تعرف جدّتي أيضاً مدى تأثير الإيقاع الشعري في خصوصيّةِ الشعر وسحرِه ولماذا تنشِد الشعر ولا تحكيه، وما أهمية الفصاحة والبلاغة، لتجتنب التردّي في المعاني وتحفظ جمال الصورةِ ومتانة الأسلوب، وتتشدّد في الحرصِ على الرونقِ والجزالةِ والأصالة. لا تعرف جدّتي أنّها تقتل الشعر وتلعن الجمال وتخون الإبداع، حين تتنكر لتراثِ آلافِ السنين وعطاءاتِ فحولِ الشعر، من قدم العصور، مقابل تجارب ومحاولاتٍ خرجتْ مجلّياتها عن سكّةِ المألوف وفتِنتْ بوارقها بشواردِ ضياعها، فاغترّتْ وتألّهت وتاهتْ مع أنها في الأصل طرائق للغربِ وضروب مِن شعرهِ المتّبع. رحِم الله جدّتي الأميّة وهدى شعراء القصائد المنثورة، فهم على الإسم يلتقون، ولأنها عاشتْ في عصرِ الانحطاط وتجاوزتِ الواقع تخريفاً وتخيّلاً، فقد تجذّرت حكاياتها القديمة، بقاءً ووجوداً، بينما شعرنا المنثور، يبهره الضوء فيلعب مغمض العينين، يوم الغاية من الشعر ألفاظ وحروف تخطف الانتباه، وتختصر العمر، معنا تحيا، ومعنا تنام، تصحبنا في النهاراتِ والعشيّات، وترتفّع بنا إلى سحْر الوقعِ وانخطافِ التصوّر، جافيةً للتّبعيّة، واعيةً للريادة، ناهيةً عن كلِّ تعميةٍ ومضلّة. أمّا الحقّ، فلم تتنبّه جدّتي إلى اجتيازها عتبة الشعر، ولم تعرف أنّها شاعرة كبيرة موهوبة، بل من شهيراتِ الشعر المنثور، وأعظمِ بواكيرِه حتّى يومِنا.