27% من تداولات الأسهم للمستثمرين الأجانب    2062 ريالا أعلى متوسط إنفاق للسياحة بالأحساء    سمو ⁧‫ولي العهد‬⁩ يستقبل أصحاب السمو أمراء المناطق بمناسبة اجتماعهم السنوي الثاني والثلاثين    "النقل" تواصل حملاتها وتحجز25 شاحنة أجنبية مخالفة    الملابس والأطعمة تتصدر الإنفاق    5 مدن استثمارية لإنتاج البن والتين    السعودية تدين استهداف موكب الرئيس الصومالي    بعد اتصالات ترامب مع زيلينسكي وبوتين.. العالم يترقب النتائج.. محادثات أمريكية – روسية بالسعودية لإنهاء الحرب في أوكرانيا    الولايات المتحدة تواصل عملياتها العسكرية ضد الحوثيين    ولي العهد والرئيس الفرنسي يبحثان هاتفيًا تطورات الأحداث في المنطقة    في ذهاب دور ال 8 بدوري الأمم الأوروبية.. قمة تجمع إيطاليا وألمانيا.. وإسبانيا في ضيافة هولندا    الأخضر يختتم استعداداته لمواجهة الصين ضمن تصفيات كأس العالم    تكريم الجغيمان بجائزة جستن    آل خضري وخضر يحتفلون بزواج فهد    موائد إفطار في أملج    بحضور مثقفين وشعراء وإعلاميين.. فنان العرب يشرف مأدبة سحور الحميدي    سحور عواجي يجمع أهل الفن والثقافة    قرار بمنع هيفاء وهبي من الغناء في مصر    هدية من "مجمع الملك فهد".. مصاحف بطريقة برايل للمكفوفين ب"أريانة"    دشن مشروع الطريق الدائري الثاني بالعاصمة المقدسة.. نائب أمير مكة يطلع على خطط الجاهزية للعشر الأواخر    إنفاذًا لتوجيهات خادم الحرمين وولي العهد.. وصول التوأم الطفيلي المصري إلى الرياض    طاش مديراً تنفيذياً للمدينة الطبية    وصول التوأم الطفيلي المصري محمد عبدالرحمن جمعة إلى الرياض    اختتام ملتقى المملكة التأهيلي الثاني لألعاب القوى    اللجنة الوزارية المكلفة من القمة العربية والإسلامية الاستثنائية المشتركة بشأن التطورات في قطاع غزة تدين وتستنكر الغارات الإسرائيلية على غزة    مشروع "إفطار الصائم" في بيش يستهدف أكثر من 800 صائم يوميًا من الجاليات المسلمة    رينارد: مرتدات الصين تقلقني    نهج إنساني راسخ    "عائشة" تعود لأحضان أسرتها بعد 100 يوم من الغياب    مستشار خادم الحرمين يزور المعرض الرمضاني الأول بمدينة الرياض    "الصحة" تعلن نتائج النسخة الأولى من الدوري السعودي للمشي دوري "امش 30"    حرائق الغابات والأعاصير تهدد وسط الولايات المتحدة    جامعة خالد تُطلق معرضها القرآني الرمضاني الأول    ‏⁧‫#نائب_أمير_منطقة_جازان‬⁩ يستقبل مدير فرع هيئة حقوق الإنسان بجازان المعيَّن حديثًا    أخضر الشاطئية يفتتح مشواره الآسيوي بمواجهة الصين    نائب أمير جازان يقلّد مساعد قائد حرس الحدود بالمنطقة رتبته الجديدة    بطولة غرب آسيا .. الأخضر الأولمبي يخسر أمام عمان بهدف    كيف أفسد ترمب صفقة المقاتلات على الولايات المتحدة    بعد محادثة ترمب مع بوتن وزيلينسكي ما السيناريوهات المحتملة لوقف النار    برامج ( ارفى ) التوعوية عن التصلب تصل لمليون و800 الف شخص    رمضان في العالم صلوات وتراويح وبهجة    القوات الخاصة لأمن الطرق.. أمان وتنظيم لرحلة إيمانية ميسرة    ممتاز الطائرة : مواجهة حاسمة تجمع الاتحاد والنصر .. والخليج يلاقي الهلال    شركة الغربية تحتفل بتخريج المشاركين في برنامج القيادة التنفيذية بالتعاون مع أمانة جدة    رمضان في جازان.. تراث وتنافس وألعاب شعبية    جامعة الملك سعود تُطلق مبادرة لاستقطاب طلبة الدراسات العليا المتميزين    مطالبات تحت المجهر.. توسع المجاردة ونطاق عمراني لبارق    مكافآت طلاب عسير 28 من كل شهر ميلادي    2611 بلاغا وحالة إسعافية بجازان    7800 مستفيد من المناشط الدعوية بمسجد قباء    نائب أمير مكة يرأس اجتماع «مركزية الحج».. ويدشن الدائري الثاني    دمت خفاقاً.. يا علمنا السعودي    رئيس الوزراء الباكستاني يصل إلى جدة    رأس الاجتماع السنوي لأمراء المناطق.. وزير الداخلية: التوجيهات الكريمة تقضي بحفظ الأمن وتيسير أمور المواطنين والمقيمين والزائرين    وزير الداخلية يرأس الاجتماع السنوي ال32 لأمراء المناطق    "الحياة الفطرية": لا صحة لإطلاق ذئاب عربية في شقراء    المملكة تدين وتستنكر الهجوم الذي استهدف موكب رئيس جمهورية الصومال الفيدرالية    دعوات ومقاعد خاصة لمصابي الحد الجنوبي في أجاويد 3    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



رشا عمران شاعرة على حافة الألم
نشر في الحياة يوم 09 - 11 - 2009

تلملمُ الشاعرة السورية رشا عمران شظايا روحها في ديوانها الرابع «معطف أحمر فارغ» الصادر في دمشق عن الهيئة العامة للكتاب (2009)، وتصنعُ منها مرايا حالمة تعكسُ مكابدتها الداخلية كأنثى تقف على حافّة الشّغف، متأرجحةً بين الحلم والواقع، الارتواء والظمأ، الحقيقة والسراب. وإذا كان فرويد يرى في الكتابة الإبداعية تعويضاً استبدالياً عن كبتٍ رغبوي مستتر، ينزاح عن مركزه، ويطفو فوق سطح الحلم في شكل صورٍ هاربة من سلطة العقل، تغوينا دائماً بالتأويل أو التفسير، فإنّ شعرية رشا عمران تبدو مقاربة جمالية للكبت الأنثوي، الذاتي، وترجمة حارّة له، إذ تستعير قصائدها تقنية الحلم الفرويدي في انسيابيته ولا معقوليته، حتى أنّ كل قصيدة في ديوانها تبدو محاولة لتفسير حلم اللّيلة الفائتة، الذي ما يفتأ ينزلق من سرداب الذّاكرة، مثخناً بالفجوات، والشقوق، والكسور.
من هذه الكسور تشيدُ الشاعرة معماراً شعرياً متآلفاً، يأخذ شكل جمل قصيرة راعشة، تتوالد ذاتياً من بؤر مجازية متداخلة تجعل أسلوبها، في أكثر قصائد الديوان، أشبه بالنمنمة الزخرفية التي تعتمد التلميحَ لا التصريح، والإشارةَ لا الإفصاح. واللاّفت في خطاب الشاعرة إحساسها المرهف بالحركية الدلالية للقصيدة، وكيف تبدأ ومتى تنتهي، ما يجعلها تتميّز حقاً عن الكثير من شاعرات جيلها في سوريا ممن يكتبن الشذرة النثرية القصيرة، الأقرب إلى الشفوية الإخبارية، أو الوقفة الصحافية الغارقة في التفاصيل السريعة، وعمران تلجأ في ديوانها إلى التكثيف البلاغي، والإيجاز المكتنز بالترميز، كاشفة عن دراية واضحة بكيفية إدارة عناصر القصيدة، وصقل تقنياتها البلاغية، والعناية بجماليات الصّورة الشعرية.
والديوان يبدأ بمرثية نثرية، تهديها الشاعرة إلى روح والدها، الشاعر المعروف محمد عمران، ليأخذ خطابها الشعري منحىً تراجيدياً كئيباً منذ السطور الأولى. فرثاء الآخر سرعان ما يتحول رثاءً للأنا، وغياب الأب ليس سوى مقدّمة للوقوف وجهاً لوجه أمام مرآة الذات، عارية من كل إرث، تصغي إلى صليل الفراغ يحاصر المكان، فتنادي الغياب بأسماء مختلفة: «أسماءُ غيابكَ/ أردّدها عاماً وراء عام/ كي أصدّقَ الفراغَ/ من آخرِ البيت/ حتى أوّل قبركَ!» هذا الفراغ الرحب يصيب رؤيا الشاعرة في الصّميم، ونجد أن مفردة الفراغ تصبح مركزية في نسيج الديوان ككلّ، بدءاً من بؤرة العنوان حيث «المعطف الأحمر» يوصف بالفارغ، وانتهاءً بالمقطع الأخير الذي يرثي الجسد الغائب في أفوله: «لم يبق شيء/ لم يبق شيء أبداً/ غير معطف أحمر فارغ.» هذا ما يجعل الفراغ يوحّد الديوان ويلملمُ أشلاءه المتناثرة، على رغم أنه يحاصر المتكلّمة، بدءاً من الافتتاحية وانتهاء بالخاتمة. والشاعرة تستحضر بطرق وأشكال مختلفة تجليات ذاك الفراغ الوجودي الذي يتركُهُ غياب الآخر، عشيقاً أو حبيباً أو صديقاً، ما يجعل الحياة برمّتها أسيرةً لقبضته اللامرئية، وبالتالي نهباً لأفول تدريجي: «الفراغُ فقط بقبضته الباردة/ يشدّني إليه/ ويجلسني في المنتصفِ تماماً/ كما يجلسُ حجرٌ واضحٌ في الغبار!» هذا الطباق بين هلامية «الفراغ» وصلادة «الحجر» يمنح المقطعَ زخماً دلالياًً قوياً، يصقلُهُ أكثر لجوء الشاعرة إلى تقنية التشخيص (personification) التي تصور الفراغ المجرّد كائناً حياً، أو طاغيةً يجرّ بقبضته الباردة تاريخَ الأنوثة برمّته، ويحيله حجراً أو طوطماً فرويدياً ملغزاً.
هذا الفراغ، العاطفي والنفسي والوجودي، لا يأتي بدوره من فراغ، فالشاعرة ترثي غروب الجسد التدريجي، رمزياً وواقعياً، بعد أن تجاوزت، المتكلمة - الشاعرة، عتبة الأربعين، وبدأت تدخل خريفاً مفزعاً، لا مردّ له في تعاقب فصول الحياة: «في الأربعين/ تستحمّ المرأةُ بماء ذاكرتها/ وتتنشّف ببقايا الكلمات/ تأفلُ في قنديلِ قلبها الواهن.» هذا الخريف يشيع، بلا شكّ، مناخاً كئيباً تتماهى معه الشاعرة، كأنهّا «شجرة خريف يتقشّر جذعها»، وتعلن صراحةً، بنبرة بوح لا تخلو من «سنتمنتالية» نمطية أنها «أكثر هشاشة من ورقة خريفٍ/ أسهل دمعاً من غيمة معتمة». بل تلجأ الى التقريرية المألوفة للكشف عن سأمها وحزنها: «كئيبٌ هذا اللّيل، كئيبٌ وقاتل، ولا شيء حولي سوى الحنين، وسوى هذا الخلد الذي يقضم ما تبقّى مني». ولأن الأشياء تتبدّل وتتغيّر، وأنياب الزمن تقضمُ كل شيء، تظلّ عين الشّاعرة شاخصةً في مرآةِ ماضيها، تتهجّى فداحةَ الغيابِ الذي تكبرُ دائرته وتتّسع، حتىّ أنّ العالم بتفاصليه وأشيائه ووقائعه ينسحبُ ويتوارى متناغماً مع الجسد الآفل: «ثم أعرف كيف تطوقني رائحةُ التفاصيل معكَ، فألتفتُ إلى الوسادة والسرير والغرفة والبيت والسلم والشارع والمقهى والمدينة فلا أرى غير غيابك»َ.
لا ترى عمران، إذاً، سوى الغياب، يمتدّ ويتّسع، لكأنّ وجه أبيها الغائب ينسحب على كل الوجوه التي تقابلها، ويسكنُها قناعاً قناعاً، فالآخر في قصيدتها مهدّد دائماً برحيلٍ وشيك، وهذا يفسّر افتتانها برؤيا الهاوية التي تتربّص بالأشياء حولها، منذرةً بصمتٍ مطبق: «ثمة هاوية تسقط كلّ ليل/ قربي/ ارتطامُها ينذر بسكوتٍ كثير». وتنعي عمران الحقيقة ذاتها، فالعالم قائم، من وجهة نظرها، على سراب، ويظلّ نهباً لرياح تهبّ، وتقتلع الأنا من جذورها: «تألفين العالم الذي يمر كما الهواء/ في غيبوبتكِ/ الحقيقةُ مجرّد غيبوبةٍ أخرى/ ستشيخُ في انتظاركِ الصامت/ للرّياح/ الجارفة». والشاعرة لا ترى في المكان ذاته سوى سلسلة من كثبان رملية متحركة، تفقد الفرد قدرته على الانتماء إلى أيّ شيء، حتى أنه، أي المكان، يصبح، في كلّ مرة، في حاجةٍ إلى إعادة تعريف أو اختراع: «تخترعين حجارةً لأمكنتكِ/ بينما الرياح/ تتقاذفكِ/ كالرّمال الجافة». وفي قصيدة قصيرة، تستعير شفافية شعر الهايكو وحياديته، بعنوان «انعكاس»، تغوص عمران خلف موجة تتكسّر، لنكتشف أنها تغوص خلف حلم اللّيلة الفائتة، وتطاردُ شتاتَ روحِها التي لا تعرف الطمأنينة: «تلك الموجة العالية/ تلك الموجة المتكسرة/ باندفاعها الحائر نحو جهة مضطربة/ خُيّل لي إنهّا روح مشتّتة/ تقاوم الاطمئنان الأخير/ تلك الموجة/ المستوحشة».
هذه النظرة الكئيبة، المستوحشة، الى العالم في قصيدة عمران تمثّل امتداداً طبيعياً لصوت الأنثى المقهور في تجارب شعرية أنثوية بارزة، شكّلت ما يشبه المتن الشعري الموازي، تمثّله بقوة شاعرة مثل سنية صالح، التي سردت في قصائدها ملحمة الألم الأنثوي في مجتمع بطريركي قاس يرى المرأة آلةً لإشباع الرغبات فحسب، تشاطرها في ذلك شاعرة لا تقلّ مأساويةً، هي دعد حداد، التي برعت في تدوين حزنها اليومي كامرأة مهملة، مهمّشة، ومطرودة. وعلى رغم أنّ الشاعرة عمران تجيد الإصغاء للشجن الأنثوي العارم في تجربة هاتين الشاعرتين التراجيديتين، إلا أنهّا تنجح في اصطياد رؤية شعرية تخصّها، قائمة على قلق إنساني أشمل، يتجاوز أقنومي الذكورة والأنوثة. وما معطفها الأحمر الفارغ، المعلّق على مشجب الغياب، سوى استعارة أنيقة للجسد المنتظر، الباحث عن كينونة إنسانية أرحب، خارج كلّ تصنيف.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.