مع أن هيئة كبار العلماء جهاز محلي بحت، إلا أن تصفحاً سريعاً لموقعها الإلكتروني، يكشف عن حجم اهتمام العالم بفتاواهم حتى من خارج المملكة. أبُرز ذلك أخيراً عبر زاوية «أكثر الفتاوى تصفحاً» على موقع الهيئة على الشبكة، الذي أوضح أن الفتاوى التي اهتم بها زوار الموقع تركزت على مسألتي «نقل الأعضاء، واللحم الحلال»، في وقت كان الجدل المحلي فيه يدور حول قضايا أبعد بكثير مثل «الاختلاط» وعمل المرأة. وفي وقت يضم فيه الموقع آلاف القضايا والبحوث والفتاوى المتعلقة بالشأن المحلي، تتعدد التفسيرات حول ما كشفت عنه «بوابة الإفتاء»، إلا أن الأكثر توقعاً من جانب المتابعين، هو أن الجمهور المهتم بفتاوى علماء المملكة عابر للقارات وليس مقصوراً في المحلي وحده. كما يلاحظ أحد المتابعين لبرنامج «نور على الدرب» اليومي. في مضامين الفتاوى الأكثر تصفحاً، دلالات ربما تفنّد بعض التهم التي ترمى بها المدرسة السعودية الدينية الممثلة في هيئة كبار العلماء، إذ ُترمَى بالإقصاء حيناً وعدم مجاراة العصر والتشديد على الناس أحياناً أخرى، إذ أن إباحة الشيخ عبدالرحمن السعدي المتوفى سنة (1388ه)، لنقل الأعضاء في السؤال القائل: هل يجوز أخذ جزء من جسد الإنسان وتركيبه في إنسان آخر مضطر إليه برضا مَنْ أُخِذ منه؟ تدحض ذلك. كما أن تعليقه في نهاية الفتوى بكلام يدل على سعة أفق سابقة للمعاصرين والمتهمين للمدرسة السعودية النقدية، إذ يقول في نهاية فتواه ما نصه: «ويلاحظ أيضاً في هذه الأوقات التسهيل، ومجاراة الأحوال، إذا لم تخالف نصاً شرعياً؛ لأن أكثر الناس لا يستفتون ولا يبالون، وكثير ممن يستفتي إذا أفتي بخلاف رغبته وهواه تركه ولم يلتزم. فالتسهيل عند تكافؤ الأقوال يخفف الشر، ويوجب أن يتماسك الناس بعض التماسك؛ لضعف الإيمان وعدم الرغبة في الخير، كما يلاحظ أيضاً أن العرف عند الناس: أن الدين الإسلامي لا يقف حاجزاً دون المصالح الخالصة أو الراجحة، بل يجاري الأحوال والأزمان ويتتبع المنافع». ربما أسهمت طفرة الابتعاث التي يعيشها المجتمع السعودي، في زيادة عدد المرتادين لفتوى المفتي العام للسعودية الراحل الشيخ عبدالعزيز بن باز، المتعلقة بحكم أكل ذبائح أهل الكتاب وغيرهم من الكفار، إذ يعاني موظفو السفارات الإسلامية والطلبة المسلمون من المشقة، إذ أجاب عن السائل أن علماء الإسلام أجمعوا على تحريم ذبائح المشركين من عباد الأوثان ومنكري الأديان ونحوهم من جميع أصناف الكفار غير اليهود والنصارى والمجوس، وأجمعوا على إباحة ذبيحة أهل الكتاب من اليهود والنصارى. واختلفوا في ذبيحة المجوس عباد النار: فذهب الأئمة الأربعة والأكثرون إلى تحريمها، إلحاقاً للمجوس بعباد الأوثان وجميع صنوف الكفار من غير أهل الكتاب، وذهب بعض أهل العلم إلى حل ذبيحتهم إلحاقاً لهم بأهل الكتاب، وهذا قول ضعيف جداً، بل باطل. وأوضح ابن باز أن الصواب ما عليه جمهور أهل العلم من تحريم ذبيحة المجوس كذبيحة جميع المشركين، لأنهم من جنسهم فيما عدا الجزية وإنما شابه المجوس أهل الكتاب في أخذ الجزية منهم فقط، والحجة في ذلك قول الله سبحانه في كتابه الكريم من سورة المائدة: «الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ»، فصرّح سبحانه بأن طعام أهل الكتاب حل لنا وطعامهم ذبائحهم، كما قال ابن عباس وغيره من أهل العلم، ومفهوم الآية: أن طعام غير أهل الكتاب من الكفار حرام علينا، وبذلك قال أهل العلم قاطبة إلا ما عرفت من الخلاف الشاذ الضعيف في ذبيحة المجوس. ولخص رأيه بقوله: «إذا علم هذا، فاللحوم التي تباع في أسواق الدول غير الإسلامية إن علم أنها من ذبائح أهل الكتاب فهي حل للمسلمين، إذا لم يعلم أنها ذُبحت على غير الوجه الشرعي؛ إذ الأصل حلها بالنص القرآني فلا يعدل عن ذلك إلا بأمر متحقق يقتضي تحريمها. أما إن كانت اللحوم من ذبائح بقية الكفار فهي حرام على المسلمين، ولا يجوز لهم أكلها، أما ما يتعلق به من قال ذلك فهو وارد في شأن أناس من المسلمين كانوا حديثي عهد بالكفر فسأل بعض الصحابة رضي الله عنهم النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقالوا: يا رسول الله، : إن قوما حديثي عهد بالكفر يأتوننا باللحم لا ندري أذكروا اسم الله عليه أم لا؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم : سموا عليه أنتم وكلوا رواه البخاري من حديث عائشة رضي الله عنها من صحيح البخاري البيوع (2057)، سنن النسائي الضحايا (4436)، سنن أبو داود الضحايا (2829)، سنن ابن ماجه الذبائح (3174)، موطأ مالك الذبائح (1054)، سنن الدارمي الأضاحي (1976)، وبذلك يعلم أنه لا شبهة لمن استباح اللحوم التي تجلب في الأسواق من ذبح الكفار غير أهل الكتاب بالتسمية عليها؛ لأن حديث عائشة المذكور وارد في المسلمين لا في الكفار فزالت الشبهة؛ لأن أمر المسلم يحمل على السداد والاستقامة ما لم يعلم منه خلاف ذلك، ولعل النبي صلى الله عليه وسلم أمر هؤلاء الذين سألوه بالتسمية عند الأكل من باب الحيطة وقصد إبطال وساوس الشيطان، لا لأن ذلك يبيح ما كان محرماً من ذبائحهم، والله سبحانه وتعالى أعلم». وأضاف: «أما كون المسلم في تلك الدول غير الإسلامية يشق عليه تحصيل اللحم المذبوح على الوجه الشرعي ويمل أكل لحم الدجاج ونحوه - فهذا ونحوه لا يسوغ له أكل اللحوم المحرمة، ولا يجعله في حكم المضطر بإجماع المسلمين، فينبغي التنبه إلى هذا الأمر والحذر من التساهل الذي لا وجْه له، هذا ما ظهر لي في هذه المسألة التي قد عمت بها البلوى». ولم يقف المرتادون للموقع على فتوى العالم السعودي الراحل ابن باز، إذ يقفون على مفتٍ آخر حول السؤال ذاته، وهو ما يدل على أنها حاضرة بشكل لافت. في هذا الإطار يقول المبتعث إلى دولة أستراليا حازم فهد «الأكل بالنسبة إليّ مقلق إلى حد ما، إذ غالباً ما أحرص على الوجبات التي تخلو من لحوم حتى أريح نفسي من قضية التأكد من ذبح اللحوم على الطريقة الإسلامية، فألجأ إلى الوجبات السريعة الخالية من اللحوم. وأشار إلى أن الجدل الشرعي حاضر لدى زملائه المبتعثين في قضايا شرعية كثيرة، حتى إن بعض «الملتزمين» حديثاً يمانع بشكل قوي عند سماعه أدنى موسيقى، ما تسبب إلى تركه للابتعاث بعد أن ضاق بالمخالفات الشرعية في بلاد الغرب، في حين يحظى صاحب البضاعة الشرعية بحضور لافت لدى المبتعثين، على رغم أن بعضهم لا يتقيد بالرؤية الشرعية السائدة في السعودية، لكن الهم الشرعي حاضر بشكل قوي لدى المبتعثين، ربما يفوق حرصهم الشرعي في بلدة إقامتهم.