إذا كان من أهم الأسلحة الفكرية لدى المنظرين في تنظيم «داعش» نقل الأقوال الفقهية الشاذة الخطرة في مسائل الردّة والقتل والدماء، التي لا يُعرف لها قائل في تاريخ الفقه الإسلامي، أو التي يكون الإجماع بخلافها، ثم تحويلها من مسائل فرعية إلى قضايا أصولية يتعلق بها الولاء والبراء، والادعاء بأنها أقوال مجمع عليها، ثم اتهام من لا يعتنقها بالبدعة أو الضلال أو الإرجاء، وربما الردّة، فكيف يمكن رصد هذه الظاهرة وبعض مظاهرها، وكيف يمكن للباحث والمتابع معالجتها؟ يؤيد الداعشيون دعواهم بردّة كل من يثبت عليه من وجهة نظرهم «إعانة الكفار على المسلمين» بالناقض الثامن الذي ذكره الشيخ محمد بن عبدالوهاب في نواقض الإسلام، ونصه: «الثامن: مظاهرة المشركين ومعاونتهم على المسلمين، والدليل قوله تعالى: (وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ). بيد أن هذا القول المطلق المجرّد لا يحوي تفاصيل حقيقة الأمر، لأن له ضوابط تبينها المصنفات في هذا الأمر، من بينها معرفة من القائل بهذا القول؟ وهل قال بتعميم هذا «الناقض» دون ضابط أحد من المسلمين؟ ومن بينها معرفة أسباب تصنيف الكتب، ثم التعرف على قيود المسألة من المصنف نفسه أو من تلاميذه المعتمدين. يقول الشيخ عبدالرحمن بن حسن في الدرر السنية معلقاً على من ينقل قولاً لا يعرف له قائل: «وبلغنا أن ابن نبهان لما أشرف على النسخة كتب اعتراضات، وأصّل فيها أصولاً، لا يدري هل سبقه إليها مبتدع أم لا؟ فلو قيل لهم: من هذا مذهبه؟ ومن قال به؟ لم يجب عن ذلك بما يصلح أن يعد جواباً». وأما الشيخ عبداللطيف بن عبدالرحمن بن حسن، فيقول في «الدرر السنية» في رسالة شديدة اللهجة إلى عبدالعزيز الخطيب: «وقد رأيت سنة 64 رجلين من أشباهكم المارقين بالأحساء، قد اعتزلا الجمعة والجماعة، وكفّرا من في تلك البلاد من المسلمين، وحجتهم من جنس حجتكم، يقولون: «أهل الأحساء يجالسون ابن فيروز، ويخالطونه هو وأمثاله، ممن لم يكفر بالطاغوت ولم يصرح بتكفير جده الذي رد دعوة الشيخ محمد ولم يقبلها وعاداها»، ويتابع الشيخ عبداللطيف: «قالا: «ومن لم يصرح بكفره فهو كافر بالله، لم يكفر بالطاغوت، ومن جالسه فهو مثله»، ورتبوا على هاتين المقدمتين الكاذبتين الضالتين ما يترتب على الردة الصريحة من الأحكام، حتى تركوا رد السلام، فرُفع إليّ أمرهم، فأحضرتهم وتهددتهم، وأغلظت لهم القول، فزعموا أولاً: أنهم على عقيدة الشيخ محمد بن عبدالوهاب، وأن رسائله عندهم، فكشفت شبهتهم، وأدحضت ضلالتهم، بما حضرني في المجلس. وأخبرتهم ببراءة الشيخ من هذا المعتقد والمذهب، وأنه لا يكفر إلا بما أجمع المسلمون على تكفير فاعله من الشرك الأكبر، والكفر بآيات الله ورسله، أو بشيء منها، بعد قيام الحجة، وبلوغها المعتبر». إلى أن يقول: «وقد أظهر الفارسيان المذكوران التوبة والندم، وزعما أن الحق ظهر لهما، ثم لحقا بالساحل وعادا إلى تلك المقالة، وبلغنا عنهم تكفير أئمة المسلمين بمكاتبة الملوك المصريين، بل كفروا كل من خالط من كاتبهم من مشايخ المسلمين... وقد بلغنا عنكم نحو من هذا وخضتم في مسائل من هذا الباب، كالكلام في الموالاة والمعاداة والمصالحة والمكاتبات، وبذل الأموال والهدايا، ونحو ذلك من مقالة أهل الشرك بالله والضلالات، والحكم بغير ما أنزل الله عند البوادي ونحوهم من الجفاة، لا يتكلم فيها إلا العلماء من ذوي الألباب ومن رزق الفهم عن الله وأوتي الحكمة وفصل الخطاب». وفي رسالة ثالثة نشرت أيضاً في الدرر السنيّة يقول الشيخ عبدالله العنقري: «وقد بلغنا أن الذي أشكل عليكم أن مجرد مخالطة الكفار ومعاملتهم بمصالحة ونحوها، وقدومهم على ولي الأمر لأجل ذلك أنها هي من موالاة المشركين المنهي عنها، فأولاً: نبين لكم سبب تصنيف الدلائل (يقصد كتاب الشيخ سليمان بن عبدالله آل الشيخ المعنون ب«الدلائل في حكم موالاة أهل الشرك»)، فإن الشيخ سليمان صنفها لما هجمت العساكر التركية على نجد في وقته وأرادوا اجتثاث الدين من أصله، وساعدهم جماعة من أهل نجد من البادية والحاضرة وأحبوا ظهورهم». وتابع: «وكذلك: سبب تصنيف الشيخ حمد بن عتيق «سبيل النجاة» هو لما هجمت العساكر التركية على بلاد المسلمين، وساعدهم من ساعدهم، حتى استولوا على كثير من بلاد نجد. فمعرفة سبب التصنيف مما يعين على فهم كلام العلماء، فإنه بحمد الله ظاهر المعنى، فإن المراد به موافقة الكفار على كفرهم، وإظهار مودتهم ومعاونتهم على المسلمين وإظهار الطاعة لهم والانقياد لهم على كفرهم». ثم يقول: «والإمام وفقه الله لم يقع في شيء مما ذكر، فإنه إمام المسلمين، والناظر في مصالحهم، ولا بد له من التحفظ على رعاياه وولايته من الدول الأجانب».