أجواء مفعمة برائحة البن والزلابية، وشاي اللبن المقنن، وصور فنية وتراثية على الجدران، وثمة ضحكات وقهقهات من هنا وهناك، وحوارات هادفة وبناءة، وأخرى ساخرة وسافرة، تحت سقف واحد، إنها «القهوة»، التي تجسد أصالة وتضامن وتواصل أبناء البلد خارج أرض الوطن، وتحكي عن وحدة وتماسك النسيج الاجتماعي لكل الجنسيات المغتربة عن وطنها، باحثة عن لقمة عيش كريمة، على رغم التباين العرقي والإثني، والاختلاف العقدي والفكري، والتفاوت الثقافي والمعرفي، وقد قمنا بجولة لعدد من «المقاهي السودانية» بالعاصمة السعودية الرياض، واحتسينا فيها أطيب وألذّ فناجين القهوة على الطريقة السودانية «الجبنة»، التي تتميز بنكهة الهيل والقرنفل والزنجبيل، ولا يمكن للزائر لتلك المقاهي إلا أن ينداح مع الحضور في أحد المواضيع التي تتم مناقشتها خلال تناول فنجان القهوة بالزنجبيل، أو كوب الشاي بالنعناع، وكما هي حال السوداني دائماً يجيد تحليل كل شيء، ففي الرياضة نحن اللعيبة، والمدرب، والحكم، والإعلام الرياضي، ومحلل الاستديو، إضافة إلى شرف قائمة المشجعين. المقاهي تعتبر استديو تحليلياً عقب كل لقاء يجمع أحد الأندية السودانية مع فريق محلي أو إقليمي، فتجد كل فرد يدلي برأيه حول مجريات أحداث المباراة، ومناكفة لطيفة بين الأضداد قد تصل بأحدهم أن يدفع قيمة جميع المشروبات للحضور، إذا كان فريقه فائزاً، وهكذا روعة كرة القدم بمشجعيها، وتدل مجمل المواضيع «الونسة» أن مجتمع القهوة يمثل برلماناً سودانياً مصغراً، ففي السياسة تجد من يناصر الحكومة الحالية ويدعو لها بالتوفيق، ويذكر انجازاتها وما حققته خلال العقدين الماضيين من حكمها، وعلى الجانب الآخر هناك من يشبهها بالكابوس الذي يأملون في تغييره ويغتنمون فرصة الانتخابات المقبلة. يؤكد بعض المداومين على ارتياد القهوة كل صباح أن يومهم من دون زيارة المقاهي، واحتساء فنجان القهوة، وتداول الأخبار في ما بينهم يمثل يوماً كئيباً وناقصاً، وأن القهوة تمثل الملتقى والمنتدى الثقافي والاجتماعي والسياسي والرياضي... فكم من معضلة تم حلها في القهوة، وكم من سؤال حائر وجد إجابة ناجعة، وكم... وكم... وكم. توصلت خلال تلك الجولة لنتيجة واحدة هي ان القهوة حقاً هي «برلمان مصغر»، والذين يرتادونها هم من كل ألوان الطيف السوداني ورموز المجتمع المدني بالرياض، وهناك من يحمل معه حظوة زوجته من القهوة، في حين يرى أحد رواد المقاهي أن المقاهي أصبحت خير ملاذ للمغتربين، وتجد أكثر روادها من وجهاء المجتمع، وفيها تنصهر جميع طبقات المجتمع في بوتقة واحدة. يؤكد باحثون فائدة القهوة والشاي الصحية، فمنهم من يرى أن القهوة تحمي الإنسان من كثير من الأمراض الخطرة، إضافة إلى أنها منبه جيد للحواس والعقل، وكذلك الشاي فقد أثبتت الكثير من الدراسات أنه مفيد جداً لصحة الإنسان، وإذا تناول الفرد مقدار كوب يومياً فإنه يحميه من الكثير من الأمراض، كما بيّنت التجارب صدقية تلك الدراسات والبحوث. كانت تلك بعض الخواطر والشواهد خلال جولتنا لبعض مقاهي السودانيين بمدينة الرياض، التي سميناها «البرلمانات المصغرة»، ونأمل عزيزي القارئ أن نكون قد ألقينا بعض الضوء على تلك العوالم المهمشة التي تقوم بدور اجتماعي وإصلاحي كبير.