إذا كان من المسلّم به أن استئثار موضوع واحد بتغطية إعلامية في أكبر ثلاث صحف بريطانية في يوم واحد، فيه دليل قاطع على جدية الموضوع المطروح وخطورته، فإن التغطية التي خصتها قبل يومين، كل من صحيفة «ديلي تلغراف» و «ذي غارديان» و «ذي إندبندنت»، على اختلاف توجهاتها السياسية، للوضع الباكستاني الداخلي، وقالت إنه بات يشكل خطراً على الأمن القومي البريطاني، ربما كان دالاً على أن تداعيات تدهور الأوضاع الداخلية في باكستان لم تعد محصورة في الداخل الباكستاني! ذلك أن التصريح الذي أدلى به بيت الله محسود، زعيم حركة «طالبان باكستان» قبل أيام، المتضمن مسؤولية جماعته عن الهجوم الذي وقع على مركز للمهاجرين في ولاية نيويوركبالولاياتالمتحدة، مع أن اجهزة الامن الاميركية نفت علاقة محسود بالهجوم، والخبر الذي أعلنته السلطات الامنية البريطانية أخيرا عن اكتشاف خليّة تخطط لتفجيرات في بريطانيا معظم أفرادها من الرعايا الباكستانيين، كل ذلك - إن ثبتت صحته - يؤكد أن حقيقة الخطر الباكستاني تجاوزت الحدود الإقليمية بكثير! بل إن صحيفة «ديلي تلغراف» لم تر من المبالغة القول إن باكستان باتت تشكل اليوم «أكبر تهديد لأمن الغرب»! ولكن السؤال الذي تتجنّب الصحف البريطانية والغربية عموماً طرحه هو: لماذا أصبحت باكستان مصدر تهديد للغرب، وهي الدولة الفقيرة التي لم تعرف لها في ما مضى عداوات غير خلافاتها مع جارتها الهند؟! أو بمعنى أدق: لماذا تحوّلت أولويات باكستان من الانشغال بمسائل الاقتصاد الداخلية إلى «تصدير الإرهاب» إلى الغرب؟! واقع الأمر أن جذور المشكلة الباكستانية الحالية بدأت بعد أحداث أيلول (سبتمبر) 2001 مباشرة، حين تدخلت الولاياتالمتحدة بطريقة رعناء في السياسات الداخلية لباكستان مخالفة بذلك المادة 2 (7) من ميثاق الأممالمتحدة، وحين دعمت إدارة بوش الرئيس الباكستاني السابق برويز مشرف الذي وصل إلى الحكم عبر انقلاب عسكري على حكومة شرعية منتخبة من قبل الشعب الباكستاني. ذلك أن الجنرال العسكري السابق استطاع أن يهدم كل الروابط بين الشعب الباكستاني وقيادته، حين قام أولاً بإغلاق آلاف المدارس الدينية في مجتمع متديّن، والتي تبعتها مواجهات مع الإسلاميين كان أشدها ما عرف بأحداث المسجد الأحمر الدامية، ثم قام بعد ذلك بمواجهة مع قضاة المحكمة العليا حين أصدر أوامره بعزل رئيسها، إضافةً إلى أنه فتح بلاده جواً وبراً وبحراً للقوات الأميركية في حربها ضد أفغانستان، ثم وقف مكتوف اليدين أمام الهجمات الأميركية ضد القبائل الباكستانية، الأمر الذي جعله في عزلة عن أمّته الباكستانية. من أجل ذلك فإن تبعات السياسات الفاشلة للنظام السابق لا يمكن أن تنتهي بمجرد تغيير رئيس البلاد، وإن جاءت حكومة منتخبة جديدة. إذ أن ما تعيشه باكستان اليوم، إنما هو ردة فعل على سياسات الحكم السابق الذي كان يتمتع بتأييد قوي من قبل الإدارة الأميركية والغرب! وتبعاً لذلك، فليس غريباً أن توجه فئات من المجتمع الباكستاني سهامها ضد المصالح الغربية حين تجد فرصة سانحة، حيث الشعور الكامن لدى المواطن الباكستاني هو أن كل ما جنته إسلام آباد من تحالفها مع واشنطن عام 2001، هو المزيد من القهر السياسي والفقر الاقتصادي والتخلف التقني! واقع الأمر إذاً أن إدارة بوش التي كانت بارعة في صنع الأعداء، استطاعت أن تخلق جيلاً باكستانياً جديداً يتوق إلى معاداة الغرب عموماً والولاياتالمتحدة خصوصاً، ومن الواضح أن هذا الشعور لن يتغير قريباً، لأن ما خلّفته الأيادي الأميركية في باكستان أكبر وأصعب من أن يتغير خلال جيل واحد! ولكن الخطر لا يقف عند هذا الحد، بل يتجاوزه بكثير! ذلك أنه بحسب صحيفة «ديلي تلغراف» فإن قوات «طالبان باكستان» التي استطاعت أن تتغلغل داخل المجتمع الباكستاني، باتت على مقربة ستين ميلاً من إسلام آباد، وأنها بحسب تصريحات قادتها - المتحالفين مع «القاعدة» - لن تتوقف حتى تحتل إسلام آباد! وإذا ما تمكنت قوات «طالبان باكستان» من الوصول إلى إسلام آباد، أو حتى مجرد إخلال الأمن في بقية باكستان - كما يدل على ذلك العديد من المؤشرات اليوم - فسينتج عن ذلك اختلال في موازين القوى الإقليمية، الأمر الذي سيكون مصدر قلق للغرب من ناحيتين. فأما الناحية الأولى فهي الخوف على مصير السلاح النووي في باكستان، التي تقع وسط ثلاث دول تتسابق على تطوير السلاح النووي، هي الهند والصين وإيران، وكل من هذه الدول سوف يتابع بقلق بالغ التطورات الباكستانية المثيرة، التي تعلم هذه الدول أن سياساتها الخارجية سوف تتأثر طبقاً لما يحدث في باكستان. وأما الناحية الأخرى فتتعلق بوجود عشرات الآلاف من قوات حلف الأطلسي في أفغانستان، إذ من المعلوم أن أوضاع أفغانستان الأمنية - التي تزداد تردياً يوماً بعد يوم - سوف تتغير كلياً بتغير الأوضاع في باكستان، وأن مصير أفغانستان سوف يكون مرتبطاً بشكل مباشر بأي تغيير في باكستان. خلاصة القول، إن الوضع الباكستاني بسبب السياسات التي اتبعتها إدارة بوش الحمقاء، وبسبب عدم وجود خطة بديلة لدى إدارة أوباما، يؤذن اليوم بزيادة في التدهور، ولن تستطيع حكومة زرداري أو التدخلات الأميركية أن تغير شيئاً من ذلك، اللهم إلا إلى الأسوأ! ومن يدري، فربما يأتي اليوم الذي تحظى فيه الأوضاع الداخلية لباكستان، ليس فقط بتغطية في الصحف البريطانية، ولكن في صحف العالم أجمع، أقرب مما يتوقّعه أحد! * حقوقي دولي