الخلفية «الفكرية» للملك سلمان بن عبدالعزيز، مع أنها واضحة للكل في مواقفه وتعاطيه مع الأحداث المحلية والعالمية، فإن الكاتب السعودي الراحل زين العابدين الركابي، شاء أن يوثّق ذلك الشق في شخصية الملك، باعتباره - كما يقول - «الجانب الآخر» الذي اكتشفه عبر صداقة ثقافية مع الملك امتدت عقدين. وقبل أن يذهب الركابي - رحمه الله - بعيداً في فصول كتابه: «سلمان بن عبدالعزيز... الجانب الآخر»، فسّر ما يعنيه بالجانب الآخر، فقال إن الملك ليس رجل سياسة وحكم فقط، ولكنه أيضاً «رجل فكر». وأضاف: «هو رجل فكر، لأنه يفكر في كل شأن يتناوله أو يتعامل معه، وقد يقال إن كل إنسان يفكر من حيث إن التفكير من خصائص هذا الكائن البشري، وهذا صحيح، ولكننا نقصد التفكير الخلاق ذا الرؤية الواضحة المتسمة بالمبادأة والاستقلال». ومضى في الإجابة عن السؤال الافتراضي الذي طرحه وزاد: «هو أيضاً رجل فكر من حيث متابعة حركة الأفكار في الوطن العربي والعالم الإسلامي والعالم الإنساني، فلا تكاد مدرسة أو اتجاه فكري له وزنه واعتباره في العالم إلا ولهذا الرجل معرفة به. وهو كذلك رجل فكر لأن لديه أفكاراً إبداعية». الجانب الأكثر تشويقاً في كتاب الركابي، ذلك المتعلق بالمواقف والشواهد، التي اجتهد الكاتب ما استطاع في رصدها للفصول والمحاور داخل الكتاب. فهو عندما ذكر الخصائص ال10 المشتركة بين الملك عبدالعزيز وابنه سلمان، مثل «الذكاء، وقوة الذاكرة، والصلة بالقرآن، والتنوع الثقافي»، لم تكن كل العناوين التي انطلق منها للربط بين العلَمين مفاجئة لأي عارف بالاثنين، فضلاً على أي سعودي، إلا أنه - بإيراده شواهد على ذلك من قول عبدالعزيز، ومن ثم أخرى تتقاطع معها من مأثورات سلمان - وثّق جوانب قد يشاركه القراء في الاحتفاء بها. وبين الفصول اللافتة، فصل الإبداع في ظل «لا إله إلا الله»، فلئن كان الجميع مدركاً أن السعودية قامت على الإسلام، وهي في الوقت نفسه دولة عصرية بكل المقاييس، فإن الركابي ضرب أمثلة عملية وحية، كحديثه عن مخطط استراتيجية البيئة الذي أعدته الهيئة العليا لتطوير مدينة الرياض، والذي كان أول محور فيه «علاقة الإنسان بالخالق عز وجل». وينص المشروع على استهداف تعزيز مقومات الرياض الحضارية بوصفها «مدينة المستقبل في إطار المبادئ الإسلامية». كذلك الحال بالنسبة إلى فصل «سلمان: الناقد الحضاري»، فمتداول بكثرة اعتناء الملك سلمان بالتاريخ والحضارة والأنساب، بل أصبح ذلك جزءاً من وظائفه عندما ترأس دارة الملك عبدالعزيز، التي تختص بهذا الاتجاه. إلا أن المثال الذي استشهد به المؤلف، بدا لافتاً، وهو اعتراض الملك سلمان على مصطلح «القرون الوسطى»، الذي يرمز إلى التخلف، عند الحديث عن العالم الغربي أو الإسلامي. بينما الحقيقة أن الإسلام في القرون الوسطى كان يعيش أزهى عصوره، في فترة الرسالة النبوية والخلافة الراشدة والدولة الإسلامية الممتدة. وفي الفصل الأخير الذي حمل عنوان: «السياسة والإنسانية: فن الحكم والعمل الخيري» عرّج الركابي، كما هو واضح، على «الجانب الأول»، وهو يبرز فنوناً للملك في الحكم. ومن أبرزها، موقف «الوضوح والشجاعة»، وشاهده أن الملك «كان في زيارة لفرنسا... وكان من ضمن الأجندة: لقاؤه رؤساء الشركات الفرنسية. وفي أثناء الاجتماع أبدى بعض الحضور من الفرنسيين عتباً على المملكة، خلاصته: أنه لا يبدو أن هناك نصيباً لفرنسا في بلد تتمدد فيه المصالح والشركات الأميركية. ومن فوره، وعلى بديهته، وبوضوحه المعروف، وشجاعته المعهودة، رد على صاحب تلك المقولة فقال: «السعودية بلد ذو اقتصاد مفتوح، ومعياره في ذلك المصلحة والتنمية الوطنية، وهو بهذا المعيار يتعامل مع الجميع، ويتيح الفرص للجميع»، ثم ألقى القنبلة الديبلوماسية السياسية فقال: «إن الإنزال في النورماندي كان أميركياً، وبهذا الإنزال تحررت فرنسا كما هو معروف في التاريخ السياسي، وبموجب هذا فإن فرنسا مدينة لأميركا، وهي حال لا توجد في المملكة». فسكت القوم. ومن فن الحكم عند سلمان أنه يمارس الشفافية الفكرية والسياسية وهو يحاور الأجانب الذين يطرحون الأسئلة عن هذه القضية أو تلك، سواء أكانت هذه القضية أمنية أم اجتماعية أم سياسية. الراحل الركابي الذي أقر ابتداء، بأن كتابه ليس «سيرة ذاتية» لسلمان بن عبدالعزيز، ختم بأن «تعب الملك سلمان في بناء نفسه وكدحه وتيقظه ومثابرته وطول النفَس في ذلك كله... هو الذي أثمر بتوفيق الله وعونه وفضله شخصية متكاملة متوازنة سوية رضية فاعلة». ولم ينسَ أن يشكر مدير مكتب الأمير عساف أبوثنين الذي أمدّه بمعلومات ومواقف عن الأمير، استحق بها أن ينعته ب«المصدر الحي الناطق».