عبَّر عدد من المثقفين والمفكرين والشعراء عن بالغ حزنهم لنبأ رحيل الملك عبدالله بن عبدالعزيز، وتحدثوا ل «الحياة» بمختلف الشهادات التي تناولت تاريخ الراحل الثقافي ودوره الرائد في الحوار الإنساني واحتواء تعدد أطياف البشر وانتماءاتهم وتحقيق منجزات ثقافية على مستوى الوطن والعالم أجمع.. وهنا الشهادات: سعيد السريحي حين أهدى أحمد الشيباني ترجمته لكتاب «نقد العقل الخالص» للمفكر كانط، والصادر في بيروت عام 1960 للأمير عبدالله بن عبدالعزيز -الملك الراحل- فإنما كان يمنحنا مؤشراً مبكراً على أننا أمام رجل استثنائي ويهيئنا؛ لكي ننتظر النقلة على يد رجل بين أصدقائه والمقربين منه من يتصدى لترجمة كانط. هذا الحوار مع العقل والمراجعة له هي المؤسس الحقيقي لكل حوار يمكن له أن يكون بديلاً عن الصراع والعنف وحسم الأمور، بناء على منطق القوة، ولذلك لا غرابة أن يقود الملك عبدالله الحوار الحضاري بين أتباع الديانات والفلسفات، وأن يطرحه بديلاً حضارياً للمنظور الغربي القائم على صراع الحضارات أو على نحو أدق تصفية الأقوياء لمن لا يملكون مثل قدراتهم من الشعوب الأخرى، وحين كان الملك عبدالله يفتح باب الابتعاث واسعاً فإن الغرض من ذلك لا يتوقف عند حدود طلاب يذهبون إلى جامعات في الشرق والغرب، وإنما جيل يتعلم كيف يحاور الشعوب الأخرى، بدءاً من ساحات الدرس وانتهاء بحلقات النقاش في الأصعدة كافة، الابتعاث حوار حضاري كذلك، ولعل المبادرة العربية التي هي في الأساس مبادرة ولي العهد عبدالله بن عبدالعزيز تعد نموذجاً على اعتماد الحوار؛ بغية الوصول إلى حل عادل للقضية الفلسطينية والتي لم تفلح الحلول المعتمدة على القوة في حلها طول نصف قرن سبق المبادرة. نحن إذن أمام رجل أسس للحوار على مختلف الأصعدة سياسياً وثقافياً وتعليمياً؛ بل واجتماعياً حينما دفع بالمرأة لكي تكون صنوناً للرجل تناقش قضايا الوطن المطروح تحت قبة الشورى. عبدالله الطاير يبدأ الباحث والإعلامي الدكتور عبدالله الطاير حديثه إلى «الحياة» قائلاً: «كان لفقيد الوطن علو في الحياة، ونسأل الله له علواً في الممات. كان رجل المرحلة وقلب الشباب حباً واهتماماً راسخاً بقيمة الشباب وبصفته البناء الحقيقي للوطن. كان -رحمه الله- يؤمن بالشباب ثروةً وطنية حقيقية ويوليها كل رعاية، ولم يكن ذلك من قبيل عمله السياسي، بل من صميم صدقه ونيته الطاهرة مع أبنائه. كان يؤكد باستمرار نقل تحياته إليهم حيثما كانوا في المملكة أو في الخارج». ويضيف الطاير بأنه ومن خلال عمله في وزارة التعليم العالي لم يوقف الملك الراحل أي مشروع يتعلق بالشباب وبتنميتهم، وذلك ما جعل له قبولاً كبيراً في ضمير الشباب وأكد مكانته لديهم. ويتذكر وكيل وزارة التعليم العالي قائلاً: «في حفلة تدشين وافتتاح المدن الجامعية في الديوان الملكي تجاوز الملك عبدالله الخطاب الرسمي وأكمل الحفلة كاملة؛ لأنه كان مبتهجاً بالتواصل المباشر مع أبنائه الشباب في تلك المدن الجامعية ومن مقار دراستهم في الجوف وجازان ونجران والدمام وتبوك، فكان مأسوراً بحماسة أبنائه الطلبة». ولفت الطاير قائلاً: «دوماً كان يكرر الملك إذا كنتم بخير فأنا بخير.. واليوم أقول له: نحن بخير بهذه اليد الواحدة وبسلاسة انتقال الحكم إلى الملك سلمان وولي عهد وولي ولي العهد.. نحن بخير فعلاً». وعن دور الفقيد الثقافي قال الطاير: «كان متقدماً في الفكر ورجلاً ذا قدرة على القبول والاحتواء، وخير شاهد على ذلك تأسيسه لمهرجان الجنادرية الذي استطاع أن ينقل تراث المملكة وتاريخها العريق إلى خريطة العالم. وجميعنا لمسنا ردود الأفعال العالمية بعد خبر وفاة الملك، وكيف لمسنا العامل المشترك؛ فهو قد بذل الكثير لأجل السلام والتفاهم بيد أتباع الأديان والحضارات. ولن ننسى تلك المنجزات الكبيرة والوطنية الخالصة له مثل الحوار الوطني، فكل ذلك يخلد له في التاريخ وفي سجل التفاهم العالمي والوفاق الإنساني». سلطان البازعي ذكر الأديب سلطان البازعي عن الملك أنه كان رائداً في إنشاء المؤسسات الثقافية المميزة، ومثل على ذلك بالمهرجان الوطني للتراث والثقافي «الجنادرية»، الذي استطاع، بحسب تعبير البازعي، احتواء آراء متنوعة ومختلفة وأضاف: «كانت الحدود العربية تضيق بتلك الأفكار المتباينة والأصوات المتعددة، فكانت الجنادرية حاضنة لها، كما استطاع الملك عبدالله أن يجعل من الحرس الوطني مؤسسة حضارية وليست عسكرية فقط». كما أكد البازعي منجزاته في الحوار وعلاقته الصادقة مع الصحافيين السعوديين وحرصه على نقاشهم واللقاء بهم دوماً، فضلاً عن انفتاحه الإنساني والخلاّق للقيم الكبيرة للبشرية كافة. وأشار الدكتور علي الرباعي إلى أن دور الملك عبدالله بن عبدالعزيز -رحمه الله- لا يمكن الإلمام به في عجالة، قائلاً: «هو مؤسس ثقافة القبول بالآخر المختلف والمغاير، والمؤصل لمشروع الحوار الوطني والمعزز لحضورنا الثقافي من خلال مهرجان الجنادرية الوطني للتراث والثقافة»، موضحاً بأن الملك عبدالله رجل فكر منفتح وذهنية إنسانية تواصلية ومتسامحة، انطلاقاً من مبادئ دينية وعروبية ووطنية. وقال الناقد الدكتور عالي القرشي عن الملك عبدالله إنه «عزز القواعد والأسس في ظل متغيرات وأحداث مستجدة، جعلت المملكة قائدة للحوار، ورائدة للوعي الإنساني، ومعززة للكرامة الإنسانية وحرياتها، ومشاركاتها الدولية في تعزيز الحوار بين الأديان»، مشيراً إلى توليها مسؤولية ذلك لأكبر دليل على اهتمامها للتبادل الثقافي، «كذلك الابتعاث الخارجي لبناتنا وأبنائنا وما له من الأثر الإيجابي فينا، نعزي المقام السامي وكل أفراد الأسرة المالكة، وأنفسنا والشعب السعودي، في وفاة خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز». ووضح مدير الأندية الأدبية الدكتور أحمد قران قائلاً: «لم تمر السنوات التي حكم فيها الملك عبدالله بالبلاد مروراً عابراً هامشياً بل كانت نقطة تحول في المسيرة الثقافية والإعلامية»، لافتاً إلى أنه في عهده جُمع شتات الثقافة في وزارة واحدة، وكذا استحداث قنوات فضائية جديدة وصحف جديدة، وتطبيق الانتخابات في الأندية الأدبية. وأضاف: «كما استُحدثت هيئات متخصصة للإعلام، وشهدت هذه المرحلة ارتفاعاً كبيراً في مستوى طرح القضايا الاجتماعية والسياسية والثقافية بكل أبعادها، مؤكداً بكونها مرحلة تأسيس للجانب الثقافي ووحدة قراره وتسليم زمامه مسؤولية لجهة واحدة متمثلة بوزارة الإعلام والثقافة، إضافةً إلى ما تمثله من أهمية في الاهتمام بالشأن الثقافي بكل أشكاله». فيما قال الشاعر خليف الغالب: «الدور الثقافي للراحل الكبير كان عظيماً ومهماً في مرحلة مهمة وحساسة، وأعظم مشاريع الملك الراحل الثقافية برنامجه العظيم للابتعاث وما يترتب عليه من تلاقح فكري وثقافي كبير واستفادة عالية في مجالات عدة، وكذلك دعمه السخي للأندية الأدبية واهتمامه بالمثقفين وإقامة معارض الكتاب في الرياضوجدة ومناشط الجنادرية وغيرها، لقد كان -رحمه الله- نصيراً للثقافة وأهلها ومحباً للعلم وطلابه». أما نائب رئيس «أدبي حائل» رشيد الصقري وصف الراحل ب«الزعيم العربي صاحب الحكمة والمواقف الإنسانية في لمِّ الصف العربي والإسلامي»، وأنه رائد التعليم والثقافة والابتعاث، و«عرف عن الملك الراحل دعمه اللامحدود للثقافة ورفع سقف الحرية للمثقفين للتعبير عن آرائهم ولا ننسى التبرع السخي العشرة ملايين التي تبرع بها للأندية الأدبية والتي كان لها أثر كبير في خدمة الثقافة والمثقفين، كما له مواقف إنسانية عدة مع المثقفين بدعمهم وتسهيل سبل علاجهم ودعم أسرهم، ومن أبرز المشاريع التي تبناها الملك عبدالله «حوار الأديان» وقارب الشعوب، وعلى الصعيد المحلي الحوار الوطني». وبدأ الشاعر عبدالرحمن الشمري حديثه إلى «الحياة» بالدعاء للملك وأن ذلك هو «شعور الجميع تجاه الملك عبدالله فهو أب قبل أن يكون ملكاً. ويُبرز اهتمام خادم الحرمين ما حظيت به كلٌّ من الثقافة والمثقفين في المملكة بعهده. حتى باتت الثقافة بمعناها الواسع مرتبطة بجهوده -رحمه الله-، ومنها: مركز الملك عبدالعزيز للحوار الوطني. مؤسسة الملك عبدالعزيز للموهبة والإبداع، كمنشأة وطنية تفردت باكتشاف الموهوبين ورعايتهم». ... وأسَّس لمشاريع الترجمة وحوار الأديان { الرياض «الحياة» انطلاقاً من رؤية خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز -رحمه الله- في الدعوة إلى مد جسور التواصل الثقافي بين الشعوب وتفعيل الاتصال المعرفي بين الحضارات، صدرت موافقة مجلس إدارة مكتبة الملك عبدالعزيز العامة بإنشاء جائزة عالمية للترجمة باسم «جائزة خادم الحرمين الشريفين العالمية للترجمة»؛ تكريماً للتميز في النقل من اللغة العربية وإليها، واحتفاء بالمترجمين، وتشجيعاً للجهود المبذولة في خدمة الترجمة. وتسعى الجائزة - مستعينة برؤى خادم الحرمين الشريفين- إلى الدعوة إلى التواصل الفكري والحوار المعرفي والثقافي بين الأمم، وإلى التقريب بين الشعوب، إذ إن الترجمة تعد أداة رئيسية في تفعيل الاتصال ونقل المعرفة، وإثراء التبادل الفكري، وما لذلك من تأصيل لثقافة الحوار، وترسيخ لمبادئ التفاهم والعيش المشترك، ورفد لفهم التجارب الإنسانية والإفادة منها. وتتخطى جائزة خادم الحرمين الشريفين بعالميتها كل الحواجز اللغوية والحدود الجغرافية، موصلة رسالة معرفية وإنسانية، ومسهمة في تحقيق أهداف سامية احتضنتها مملكة الإنسانية، وترجمتها جهود خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز -رحمه الله- ومبادراته الراعية للسلام والداعية للحوار والتآخي بين الأمم وانطلقت هذه الجائزة في 2006، وهي جائزة تقديرية تمنح سنوياً للأعمال المترجمة من اللغة العربية وإليها، وتهدف إلى الإسهام في نقل المعرفة من اللغات الأخرى إلى اللغة العربية ومن اللغة العربية إلى اللغات الأخرى وتشجيع الترجمة في مجال العلوم من اللغة العربية وإليها، وإثراء المكتبة العربية بنشر أعمال الترجمة المميزة، وتكريم الهيئات والمؤسسات الناشطة في هذا المجال، والنهوض بمستوى الترجمة وفق أسس علمية رصينة ومميزة. وسبق أن حصل على هذه الجائزة في دوراتها السابقة عدد من المفكرين والمترجمين وبعض المؤسسات الثقافية ودور النشر الهامة في الوطن العربي والعالم، ومنها المنظمة العربية للترجمة ومشروع كلمة التابع لهيئة أبوظبي للثقافة والتراث والمركز العربي للتعريب والترجمة والتأليف والنشر التابع لجامعة الدول العربية، وكذلك المركز القومي للترجمة بها مناصفة مع المجمع التونسي للعلوم، وغيرها الكثير، مما جعل جائزة الملك عبدالله بن عبدالعزيز للترجمة تأخذ مكانة مرموقة في المشهد الثقافي العالمي وتنال احترام وتقدير الأوساط العلمية والثقافية نظراً إلى الجهود الكبيرة التي تبذلها في هذا المجال المهم والحيوي. أما مركز الملك عبدالله بن عبدالعزيز العالمي للحوار بين أتباع الأديان والثقافات، الذي افتتح في العاصمة النمساوية فيينا فقد بدأت خطوات تأسيس المركز بداية من دعوة خادم الحرمين الشريفين لعلماء الأمة ومفكريها ومثقفيها للاجتماع في مكةالمكرمة للخروج برؤية إسلامية موحدة للحوار مع أتباع الأديان والثقافات المعتبرة، الذين اجتمعوا بعدها في العاصمة الإسبانية مدريد، لتأتي بعدها خطوة الانتقال الأممي في اجتماع الجمعية العامة للأمم المتحدة، وطرحت مبادرة الملك عبدالله للحوار بين أتباع الأديان والثقافات، ثم الندوات والمؤتمرات لتلك المبادرة السعودية في مختلف دول العالم، وكانت نتائج تلك الجهود تأسيس (مركز الملك عبدالله العالمي للحوار بين أتباع الأديان والثقافات وكانت خطوات تأسيس مركز الملك عبدالله للحوار بين الأديان والثقافات بدأت بدعوة علماء المسلمين الذين اجتمعوا في مكةالمكرمة في «المؤتمر الإسلامي العالمي للحوار»، وطالبوا في توصياتهم الختامية بإنشاء مركز عالمي، باسم الملك عبدالله، للتواصل بين الحضارات، بهدف إشاعة ثقافة الحوار، وتدريب وتنمية مهاراته وفق أسس علمية دقيقة كما طالبت لجنة متابعة حوار الأديان في النمسا، بإنشاء مركز عالمي لحوار أتباع الأديان، حسبما اقترحه خادم الحرمين الشريفين، إذ تم تكوين فريق عمل تحضيري يضم ممثلي الديانات الإسلامية والمسيحية واليهودية ورئيس المعهد الدولي للسلام. كما اتفق المشاركون في مؤتمر «مبادرة خادم الحرمين الشريفين للحوار وأثرها في إشاعة القيم الإنسانية» في جنيف على إنشاء المركز سعياً للوصول إلى مجتمع إنساني يسوده التفاهم والاحترام المتبادل، ورفض التمييز العنصري والاستعلاء العرقي. الرابعة وكان الملك عبدالله بن عبدالعزيز أكد في الكلمة التي ألقاها وزير الخارجية الأمير سعود الفيصل أمام «منتدى تحالف الحضارات الثالث لإرساء قواعد السلام»، الذي انعقد في العاصمة البرازيلية، على وجود جهود تبذل لتأسيس مركز عالمي للحوار، يضم ممثلين عن جميع الأديان الأساسية، ويعمل بكل استقلالية بمعزل عن أي تحديات سياسية. وقد احتضنت مدينة فيينا في النمسا مركز الملك عبدالله لحوار الأديان، إذ أعلن وزير خارجية النمسا أن عاصمة بلاده ترحب بأن تكون مقراً للمركز. يذكر أن للمركز «منتدى استشارياً» مكوناً من نحو 100 عضو من الديانات الأخرى والمؤسسات الثقافية والمنظمات الدولية، بغية توفير المزيد من منظور الأديان والثقافات، ويسعى المركز أساساً إلى تعزيز عملية إشراك وتمكين المنظمات الدينية المحلية والقيادات الدينية في مجال حفظ السلام، ومنع الصراعات و تحقيق التنمية.