ما هو سر الضجة التي أثارها معرض جياكوميتي الأخير في مؤسسة بايلر؟ على كثرة عروض جياكوميتي الاستعادية بين باريس وسويسرا، جهد عدد من صالات العرض الباريسية لعرض ما توافر لديه من أعماله النحتية أو التصويرية، والتي ارتفعت أسعارها مع اعتبار معرضه الاستعادي في «مؤسسة بايلر» في بال حدثاً تشكيلياً بارزاً. وحتى ندرك السبب علينا مراجعة سلطة هذه المؤسسة التي ساهمت وشاركت في صناعة تاريخ الحداثة وتياراتها في أوروبا القرن العشرين بسلطة مجموعتها من الكنوز النادرة، هي التي تكشف حجم الاستثمار المادي الهائل في أعمال الفن الحديث، فالمعرض عبارة عن مئة وخمسين عملاً من أعمال جياكوميتي البارزة، والبالغة الندرة لأنها تغطي كافة مراحله، وبعضها يعرض للمرة الأولى مثل اللوحة التي تمثل صورته وهو في المحترف المنجزة عام 1921 بالألوان الزيتية، لوحة لا تقدر بثمن ليس فقط بسبب قيمتها الفنية فقط وإنما بسبب ما تلقيه من اضاءة اسلوبية على تحوله من سيزان الى التكعيبية قبل بلوغه اسلوبه الفراغي الوجودي الذي عرف به. قد يكون جياكوميتي الى جانب برانكوسي وكالدير من أبرز نحاتي القرن العشرين وأشدهم تأثيراً. هو المثال الفني النموذجي عن الفكر الوجودي السارتري، تعكس تجربته إشكالية العدم الغالب على الوجود، وتتداخل في وجوهه الخطوط السالبة (السوداء) بالموجبة (البيضاء) يغني بعضها بعضاً. الفراغ لديه أصلاً غير موجود. فالكتلة ما هي إلاّ خط رهيف يفصل بين فراغين لذا تبدو شخوصه شبحية أشد نحولاً من العدم، أبرز موضوعاته الوجودية تمثل «الشخص الذي يمشي» بعبثية وقدرية مطلقة إحباطية كافكاوية لا يملك سلوكها أدنى بارقة أمل في الاقتراب من مسعى أو هدف. ابتدأت هذه التجربة مع كوابيس الحرب حين نحت اكثر من تمثال يمثل كلباً شريراً يعكس هيكله اقسى درجات الغربة والمحق والجوع والبرد القارس. ثم أخذ الفراغ (بمعنى تفريغ الشكل من الكتلة) المعنى الشمولي، تبحث ثقافته وتجربته الوجودية «السيزيفية» عن ثمرة «لا شكلية» تنتج عن الإعدامات المتواترة والمتلاحقة في الشكل، هو على الأغلب هيئة لشخص هائم على وجهه يمشي باتجاه اللاجدوى (مصيرة العبثي الإرادي). تكشف رسوم المعرض استثماره فترة للنحت الرافدي مثل مسلة حمورابي، وبالتحديد تماثيل الكاهن «غوديا» التي نُحتت بحجر «الديوريت» الذي يملك خصائص تداخل السالب بالموجب كانت المادة نادرة عبر آلاف السنين تحتكرها المنطقة الحالية لمقالع سلطنة عمان (موجان). هو ما قاده الى اكتشاف تقني بحيث يرسم بتهشيرات متعارضة من الغامق والفاتح، الاسود والابيض تعدم بعضها بعضاً وتلغي حدود الظل والنور، تماماً كما هو نحته بالتهشيرات بالسكين الفائرة والنافرة في آن أي إنه يهدم الكتلة بعد بنائها وهكذا. يصل اذاً بالشكل الشبحي الى حدود الفناء، صورة الانسان المطلق الممسوح الشخصية والخصائص المميزة بهزيمته المصائبية، يبدو رأسه غائباً بعكس حضور قدميه اللتين تلتحمان بالجاذبية الأرضية، لعلها الصورة الوجودية المتأخرة عن الإنسان الصرصار. والمعرض يعانق وثيقة ثمينة تمثل صورة أرنست بايلر (مؤسس بايلر) عام 1960 يمشي بعكس تمثال الرجل الذي يمشي في أحد المعارض التي أقامها لجياكوميتي، ويقال ان البورتريه الخلفي رسمه الفنان عن أرنست بايلر نفسه ومهما يكن من أمر فهي إشارة الى مدى دعم المؤسسة لجياكوميتي اثناء حياته والثروة التي لا تقدر بثمن التي يمثلها الآن تراث مجموعته المعروضة.