بدأتُ بقراءة نص صغير ظهر في جريدة «لوموند» منذ أيام، جذبني إليه عنوانه «عميدة البيت الأبيض»، وبالأخص الجملة المختارة للإبراز والتي تقول «في التاسعة والثمانين، ما زالت هيلين توماس تحضر كل يوم المؤتمر الصحافي الذي يعقده الناطق باسم البيت الأبيض، للقول إنه لا يمكن الاقتراب منها من غير خشية، لا سيما أنها توحي بأنها مستعدة تماماً للذهاب إلى المتاريس». لم يفصح المقال الشيق عن المعلومة التي خضتني إلا في آخر مقطع منه: «كان أبواها مسيحيين لبنانيين». هرعت إلى الإنترنت (الذي لن يشكر أبداً كفاية على ما أتاحه)، لأكتشف أن السيدة ليست من لبنان فحسب، بل من مدينتي طرابلس! وأنها ابنة جورج انطونيوس (الذي يشابه اسمه اسم الكاتب الشهير، صاحب «يقظة العرب»)، وهو من الطائفة الأرثوذوكسية، الساكنة الأصيلة لطرابلس، والتي كانت تشكل ما يقرب من ثلث المدينة في وقت من الأوقات. غني عن القول إني سأبحث عن أصل وفصل الرجل أول ما ستطأ قدماي مدينتي... على رغم أنني وعدت نفسي قبلاً بالتحقيق بقصص مشابهة تخص شخصيات من طرابلس اشتهرت في مواطنها الأخرى، ومنها تلك العائدة لروز اليوسف التي تشبه هذه، وإن كانت أكثر إلفة للناس... ولم أفعل! هيلين توماس تحتل المقعد الوسط من الصف الأول في قاعة الصحافة في البيت الأبيض. وهو، استراتيجياً، أهم المواقع في القاعة التي لا تضم سوى 49 مقعداً، سبعة مقاعد في سبعة صفوف. علاوة على ذلك، فهو الوحيد الذي يحمل لوحة عليها إسمها الشخصي وليس إسم المؤسسة الإعلامية التي ينتمي إليها المراسل. وقد أسماها زملاؤها «البوذا الجالس». ولأن الناطق الرسمي يعطي الكلام للصحافيين وفق تدرج أهمية المقاعد، فالسيدة أول من يُعطى له الكلام. ولكنها اعتادت على طرح الأسئلة متى ما يحلو لها، مبررة ذلك بالقول إن أعضاء الحكومة موظفون يدفع الناس مرتباتهم. وهيلين تحتل هذا الموقع منذ 1961، بلا انقطاع. وكانت قد حضرت إلى البيت الأبيض كمراسلة لوكالة «يو بي أي» برفقة جون كينيدي، بعدما غطت حملته الانتخابية. ومذاك، رافقت عشرة رؤساء أميركيين، وكانت حاضرة في أهم الرحلات الرئاسية، بدءاً بتلك التي قام بها الرئيس نيكسون إلى الصين عام 1972، كما حضرت كل القمم الاقتصادية. وفي الرابع من آب (أغسطس) الفائت، حضر الرئيس أوباما (كما فعل في السابق، وإن باحتفالية اقل، جيمي كارتر بمناسبة عيد ميلادها الستين، ثم بيل كلينتون بمناسبة بلوغها الخامسة والسبعين)، إلى القاعة حاملاً قالب حلوى صغيراً ليغني لها «happy birthday»، احتفالاً بعيد ميلادها التاسع والثمانين، ثم قال إنهما، لأنهما مولودان في اليوم نفسه، يتبادلان الأمنيات «بعالم يسوده السلام والتسامح و... إصلاح حقيقي لنظام التأمين الصحي». ذلك أن هيلين لا تجامل، وهي بدأت بانتقاد أوباما حول تردده بخصوص التأمين الصحي. ولديها طريقة خاصة بتعقب الرؤساء والناطقين باسمهم بالأسئلة، فتمسك بتلابيبهم وتكرر السؤال كل يوم حتى ينهار من هو أمامها. وفي أحد الأيام، شكرها توني سنو، الناطق باسم الرئيس بوش لأنها قدمت «رؤية حزب الله»!، وهي أمضت خمس سنوات تكرر يومياً السؤال نفسه على الناطق: «ولكن، لماذا احتل العراق؟». وباشرت أسلوبها الحاد الذكاء مع أوباما، سائلة إياه «ببراءة»، في أول مؤتمر صحافي عقده بعد انتخابه: «السيد الرئيس، هل تعرف بلداً في الشرق الأوسط يمتلك السلاح النووي؟». تهرب الرئيس من الجواب، وهي علقت قائلة: «كنت أختبره، أريد أن أعرف مبلغ شجاعته»! فهيلين ترى أنه لا ديموقراطية من دون رأي عام مطّلِع، وهي الجملة التي تتصدر أحد كتبها، «مرصد الديموقراطية»، وأن مهمة الصحافي ليست الحصول على سبق وإنما المطالبة بجردة حساب. ولديها خمسة كتب، آخرها صدر العام الفائت ويحمل عنوان «اسمع أيها الرئيس: ما رغبتم دوماً أن يعرفه رئيسكم وأن يفعله». كما شاركت في فيلم مايكل مور الشهير «فهرنهايت 9/11»، المنتج عام 2004، وفي أفلام أخرى منها «دايف» عام 1993، وهو كوميديا سياسية عن شبيه بالرئيس يحل محله أحياناً، ثم يحل فعلاً حين يصاب هذا بمشكل صحي... ولقياس درجة نقدية واستقامة هيلين (التي تقول عنها صديقة لها صحافية مشهورة هي الأخرى، أن «لا أحد على يسار هيلين»)، فهي عام 2000، لم تتردد للحظة في الاستقالة من الوكالة التي عملت فيها لمدة 57 عاماً، يوم اشتراها الأب مون و «الكنيسة الموحدة». وقالت تعليقاً على ذلك: «أمضيت نصف قرن أمارس الرقابة الذاتية، الآن استفيق في الصباح وأسأل نفسي: من تكرهين اليوم؟». ذلك أنها تحررت من مستلزمات مهمة مراسل الوكالة، الملتزم بنقل الوقائع كما هي، وباتت تمثل صحيفة وتكتب فيها عموداً يومياً. وجواباً عن سؤالها، فهي تكره قبل كل شيء الرئيس بوش، الذي تقول عنه أنه أسوأ رئيس في تاريخ الولاياتالمتحدة. لكنها تكره أيضاً الكثير ممن لا يسير وفق ما تراه صائباً. وفي حادث صغير معبر عن شخصيتها المشاكسة تلك، راحت تلاحق الناطق باسم أوباما، روبرت جيبز، حول نية الرئيس اعتماد قانون فيديرالي للتأمين الصحي. وهو كان يتهرب ويجيب بطريقة وصفتها بأنها غير مقنعة بالنسبة إليها. ولما انتهى به المطاف الى القول إن «لا جواب مقنعاً لها لديه»، راحت تكرر، كعادتها، السؤال كل يوم، ليس طلباً لجواب تعرف أنه لن يأتي، ولكن لأنها «تريد أن يعذبه ضميره»، كما قالت! وأخيراً، فهيلين توماس كانت أول امرأة تحتل رئاسة نادي الصحافة الوطنية، وهو عادة موقع فيه الكثير من الذكورية المترسخة، وأول امرأة تصبح عضواً ثم رئيساً لرابطة مراسلي البيت الأبيض. هل ندعو لها بطول العمر ودوام الصحة فحسب، أم نلح على الحاجة لالتفاتة من مدينتها الأصلية طرابلس، فتطلق اسمها على مبنى تعليمي مهم مثلاً، كما هناك ابتدائية «فرح أنطون»، ابن المدينة الآخر، (التي تعاني، ككل المدارس الرسمية، من إهمال مخجل ولا يليق باسم الرجل، ولكن هذا موضوع آخر)... أو يدعوها الرئيس اللبناني إلى بلدها الأصلي ويمنحها أرفع وسام، ليكون تكريماً ومناسبة للتعريف بها.