«ساقية جحا» لا تزال تدور! ذلك هو أصدق وصف لحال السودان، إذ لا تتوقف مفاجآته السياسية منذ قديم الزمان، من انتخابات ديموقراطية، فانقلاب عسكري، فثورة شعبية تأتي بحكومة انتقالية، تتحول ديموقراطية منتخبة، فانقلاب جديد. ولا تقتصر مفاجآته على تبدل الأنظمة وحدها، بل يستيقظ السودانيون كل يوم على واقع جديد، أو إن شئت فقل كارثة تتخفى في ثياب حدث سياسي. تحالف حزبي جديد، انشقاق داخل الأحزاب، انقلابات «قصر» تبدل واقع الحاكمين بين ليلة وضحاها. والغريب أن الحياة تمضي على رغم أنف «الوقوعات». الناس يلبسون مفتخر الثياب، ويرتادون قاعات الأفراح وبيوت المآتم. والجامعات تفتح أبوابها لتلتهم مئات آلاف الدارسين بلا أمل في عمل ولا مستقبل. وتزدهر الفضائيات السودانية الحكومية على رغم أنها تنطق بلسان واحد، وخطاب واحد، وتكاد تستضيف الوجوه ذاتها كل مساء. وشيئاً فشيئاً بدأ السودانيون في الآونة الأخيرة أقرب إلى تقبل فاجعة «الانفصال»، وهو «بعبع» ظلوا يخشونه ويستبعدون وقوعه منذ حدوث التمرد الأول في جنوب البلاد في عام 1955. إذ إن مماحكات شريكي السلام (الحركة الشعبية والمؤتمر الوطني) لا توحي بشيء من أدبيات الشراكة، بل تشير إلى أن الجنوبيين ماضون في طلب الانفصال، وأن الشماليين (الحكومة تحديداً) يتعاملون مع الانفصال بعقلية من لا يريده ولكنه لن يفعل شيئاً إذا وقع فعلياً. ومهما يكن، فإن الجنوبيين عرفوا منذ القدم بالصبر والجلد وطول البال. ولكن يبدو أن الأهوال التي ذاقوها على أيدي القوات والساسة الشماليين جعلتهم يبحثون عن أقصر الطرق للنأي عن تلك المرارات، بالتصويت لمصلحة الانفصال في استفتاء تقرير المصير الذي انتزعوه بمكر ودهاء من الساسة الشماليين، وتحت الضغط الاقليمي والدولي من قادة حكومة المؤتمر الوطني، والذي من المقرر إجراؤه في عام 2011 طبقاً لبنود اتفاق السلام «الشامل» الموقع بين الطرفين في نيفاشا في كينيا العام 2005. من يقرأ عناوين صحف الخرطوم خلال الآونة الأخيرة لن يغمض عينيه عن شبح الانفصال الماثل. ولأن الحكومة السودانية أدمنت انعدام الصدقية طوال العقدين الماضيين، لم يعد مواطنوها يصدقون ما تدعيه من حرص على «الوحدة الجاذبة». فقد استهلت حكومة «الإنقاذ» عهدها في عام 1989 بإعلان استعدادها لمنح الجنوب خيار تقرير المصير حتى لو أدى إلى الانفصال. وعادت لتسحب إعلانها، بداعي البحث عن السلام عبر سلسلة من مؤتمرات «الحوار». وسرعان ما أتبعت بحثها عن السلام تصعيداً غير مسبوق في القتال الذي تم مزجه بدعاوى «الجهاد» والحرب الدينية والترويج لثقافة «الاستشهاد» و«التجييش». وعلى رغم الدماء الطاهرة التي سالت بلا مبرر ولا ثمن، عادت الحكومة لتقبل على مائدة التفاوض سلاماً يرغمها على قبول تقرير مصير الجنوب، واقتسام السلطة والثروة مع شريكها الجنوبي، وأضحى نداء «الشهادة» ثرثرة في هواء الأجهزة الاعلامية الحكومية، لترتدي الحكومة نفسها ثوب الباحث عن السلام و«وحدة جاذبة». هي سلسلة من التناقضات والتراجعات وتبديل المواقف قضت على مفهوم «الصدقية» بنظر الشعب. ولم يعد هناك من يصدق أن ما تعلنه الخرطوم هو ما تضمره حقاً، خصوصاً أن غياب الصدقية جاء بعد رفض استمر طويلاً لرأي الآخرين. وهكذا فإن الحكومة التي ظلت تصدع رؤوس الآخرين بأنها الأبقى والأصلح لحكم أكبر دولة في القارة السمراء سينتهي بها المطاف – في حال الانفصال – حكومة على جزء ضئيل من البلاد. ولا يفوت في هذا المقام أن يشار إلى أن فجيعة السودانيين في وحدة بلادهم لن تقتصر على ذهاب الجنوب وحده، إذ إن ثمة رقاعاً أخرى أهاجها أنها اشتمت رائحة «تقرير المصير»، فأضحت « خازوقاً» ماثلاً قابلاً للانفجار في أي لحظة. وهي مناطق أبياي وجنوب كردفان والنيل الأزرق. ولا بد من الإشارة إلى أن شرق السودان يتململ منذ توقيع «اتفاق الشرق». أما مصير دارفور فعلمه عند الله. فهل حقاً أرادت الحكومة السودانية أن تتحسب للمفاجآت والضغوط وتأرجح الأثقال السياسية بأن تقتصر على تجهيز نفسها لحكم ما أضحى يعرف ب «مثلث حمدي» الذي يضم ولايات وسط البلاد، وطرفاً من الغرب، والطريق إلى البحر الأحمر شرقاً؟ كان لابد أن تؤدي سياسة انعدام الصدقية إلى وقوف غالبية السودانيين في خانة المتفرجين على حكومة بلادهم وهي تناطح صخوراً لا بد أن توهن قرنها: استعداء الجيران، التربص بالولايات المتحدة، معاداة الغرب، التلويح بتصدير الثورة «الإسلامية». إلى درجة أن حشد الجمهور للمناسبات الحكومية أضحى يتم بالمقابل المادي بدلاً من الاندفاع الوطني الذاتي. ويزيد المشهد قتامة بالتطلع إلى الواقع الاقتصادي الذي يعانيه السكان، فقر وعدم في كل مكان. عطالة وتدني أجور وفساد حكومي قفز بمؤشرات الفساد الأخلاقي في المجتمع إلى اعلى معدلاتها. وعلى رغم ذلك تتمسك السلطات بأن عدد الفقراء لا يتجاوز نحو 3 في المئة من السكان، وهي تعلم تمام العلم أن جميع السكان فقراء، عدا أنصار الحزب الحاكم من أتباع «الجبهة الإسلامية القومية». من المؤسف أن ينحدر السودان الغني بثرواته وعقوله وانفتاح أبنائه إلى هذه الوهدة الاقتصادية. والأشد إثارة للأسف أنه ماضٍ إلى تبعيض بغيض، فحتى لو اختار جنوبيوه الوحدة فستذهب جيوب أخرى من شماله نحو الجنوب الذي سيتمتع بما يشبه الاستقلال في كل حال. كل تلك الكوارث انطلقت من شرارة صغيرة: عدم الصدقية. لولا ذلك لكان السودانيون – متحزبون ومستقلون - انضموا إلى قاطرة «الانقاذ» لتحسين حال البلاد. إنها نهاية محزنة حقاً لبلد لا تنقصه الموهبة والسواعد لصنع مستقبل آمن ومزدهر. ويبدو أن نسمات «التحول الديموقراطي» الموعود ستأتي للسودانيين بأسوأ مما توقعوا. لكن هل فات الأوان لتدارك ما يمكن تداركه؟ سيقول المجيب: لا. لم يفت، ولكن بشرط توافر النية الحسنة والصدقية. هل يملك فاقد الشيء ما يمكنه أن يجود به قبل أن توصد كل الأبواب بوجه سودان فاعل في داخله ومحيطه وعالمه؟ * من أسرة «الحياة»