قبل أيام كنت في زيارة لصديق في مدينة لتل روك في ولاية أركنسو الأميركية، ولاية الرئيس كلينتون وغيره من قيادات أميركية بارزة، أخذني في جولة بدأت من مكتبة الرئيس كلينتون وانتهت بثانوية لتل روك التي كانت مركز أحداث اجتماعية وسياسية شكلت منعطفاً مهماً في التاريخ الاجتماعي الأميركي. الدستور الأميركي يمنح الجميع حقوقاً متساوية، ولكن هناك من فسر الدستور بطريقة شرَّعت للفصل العنصري بين الأسود والأبيض، فمنعت السود من الاختلاط بالبيض في المدارس والمرافق العامة بطريقة «دستورية». القاعدة التشريعية التي أقرها دعاة الفصل كانت «منفصلون ولكن بحقوق متساوية (separate but equal)». فالأبيض والأسود متساويان من ناحية الحقوق ولكن كلاً في فضائه الجغرافي الخاص، قاوم مناهضو العنصرية هذه القاعدة التشريعية، أكثر من مرة، إحداها في 1923، إذ أقرت غالبية المحكمة العليا تلك القاعدة، وقد سوغت الغالبية قرارها بأنه «عندما يقوم المجتمع باعتبار عرقاً أدنى من عرق آخر فلا يصح دستورياً إلزام اعتبارهم في مستوى متكافئ». ولكن في 1954 أسقطت المحكمة العليا تلك القاعدة واعتبرت أن الفصل العنصري يخالف الدستور، بطبيعة الحال لم ينته الأمر هنا، فعلى رغم وجود دستور يؤيد الحقوق المتساوية، ومدعوم بتفسير دستوري يمنع الفصل العنصري، إلا أن بعض الولايات الجنوبية رفضت قرار المحكمة العليا الأخير، بعدها بثلاث سنوات قرر تسعة طلاب سود الذهاب إلى ثانوية ليتل روك الحكومية استناداً إلى حقهم الدستوري مع أنها كانت مخصصة للبيض، تطورت الأحداث إلى أن تدخل الرئيس الأميركي أيزنهاور في 25-9-1957 بأن أرسل 1200 جندي إلى ثانوية لتل روك لحماية الطلاب وتطبيق القانون. النجاح القانوني الذي تحقق في 1954 ارتكز على معايير نفسية، فقد قدم مناهضو العنصرية دراسات تثبت أن الفصل العنصري يخلق شعوراً بالدونية ما يؤدي إلى تشكيل إنسان غير سوي، يحتقر نفسه، ويقلل من قيمته الذاتية، وبشكل شبه دائم، هذه الدراسات قلبت القضية نحو صالح رافضي الفصل العنصري، ومع أن القصة فيها الكثير مما يستوقف، إلا أن هذا بالذات لفت انتباهي، النصوص الدستورية لم تتغير، ولكن اعتبار الآثار النفسية للفصل العنصري أدى إلى تغيير تفسير الدستور بما يلغي مشروعية الفصل، بل ويجرم من يعمله. ماذا يمكن أن نقول عن الآثار النفسية لأشكال المعاملة التي تعيشها المرأة الخليجية؟ وما أهمية إدخال تلك الآثار في معادلة الجدل القانوني والتشريعي؟ في مناسبات مختلفة كنت أسأل سيدات خليجيات وسعوديات تحديداً من أكثر من خلفية عمرية أن يصفن بإيجاز تجربة كونهن امرأة في المجتمع السعودي، إحدى الإجابات المعبرة كانت: «أنا فتنة. هذه خلاصة نظرتي لنفسي. أنا في نظر الكل أولاً وقبل كل شيء جسد يتم اشتهاؤه. جسد يجب إخفاؤه بشكل متواصل لأحمي الرجل من شر جمالي. عقلي لا يمكن النظر إليه إلا إذا أخفيت جسدي. وبقدر ما أكشف من جسدي بقدر ما يقل النظر إلى عقلي حتى لو كان الكشف بريئاً ومحدوداً. أنا لا أملك ذاتي. حياتي مجموعة أدوار لم أخترها، وليس لي حق مناقشتها. واجباتي و«حقوقي» مرسومة لي من الغير، وعلي أن أكون شاكرة لما يأتي. مشاعري لا قيمة لها. قليل من ينظر إلي كما أنا، وينظر إلى ما أريده أنا. نادر من ينظر لي ككائن عاقل يحق لها أن تكون إنسانة، كما يحق لها أن تكون جسداً، كما يحق لها أن تتصرف بغير اعتبار لفتنة الغير. ليس لدي قرار. فأنا قاصرة أبد الدهر. أتقلب بين ولاية الغير. مرة أبي، مرة أخي، مرة زوجي، بل وحتى ابني، وإن لم يكن هذا وذاك فقاضٍ لا يعرف شيئاً عني وعن حاجاتي. أنا تبع. أنا أم وأخت وبنت وزوجة ولكنني لست «أنا». ولا تصدق أن هناك من تقبل هذا. من يقبل هذا إما امرأة تخاف من مسؤولية الاستقلالية ومسؤولية الذاتية ومسؤولية الإنسانية. وإما امرأة لا تشعر بأن لها ذاتاً يتم هضمها عندما تعامل معاملة القصر. أي إنسان يخنقه مثل هذا. بعضنا ترفض بصمت. وبعضنا ترفض بصوت. أنا غير قادرة على الصمت. الوضع يخنقني. ولكنني أدفع الثمن غالياً. انظر كيف يتحدث الناس عني». وقد سمعت مثل هذه الإجابة من سيدة تعيش كلية خارج التقاليد والأعراف بل وحتى خارج الضوابط الدينية، فسألتها: كيف تقولين هذا وحياتك هكذا؟ فقالت: أنا هكذا لأنه صادف أن زوجي يريد مني هذه الحياة. حريتي هي حرية زوجي. اختياراتي هي اختياراته. أنا سعيدة بهذا، ولكن شعوري بإنسانيتي يظل ناقصاً. مشاعر الحنق والغضب، مشاعر الحزن بسبب نظرة الغير لها، تتجلى بطرق مختلفة حسب شخصية المرأة... هناك من تتمرد بشكل صريح على الأعراف والتقاليد، هناك من تذهب أكثر وتتمرد على الدين إما بصمت، كما هي حال البعض، وإما صراحة، كما هي حال أفراد من السيدات اللاتي خرجن إلى الإعلام وكتبن ضد كل شيء حتى الدين، هناك من تقبل مقهورة وخانعة ومضطرة، وهناك من تقرر أن تمحي شخصيتها لكي ترتاح من الصراع الداخلي بين ذاتيتها وبين قيودها. ولا ألوم من تغضب، بل أرى أن أقل حق لها هو أن تغضب، أن تغضب من مجتمع ذكوري أبوي اختزلها في جسدها، وحرمها من أبسط حقوقها الإنسانية. قد لا نمارس الفصل العنصري، ولكننا نمارس فصلاً أسوأ هو الفصل الإنساني، إذ نفصل المرأة عن إنسانيتها، وقد يكون أسوأ مما كان يعاني منه السود، نحتاج أن نشخص أثر هذا ونجعله جزءاً من الجدل القائم حول حقوق المرأة، فالجدل التشريعي والحديث عن حقوق المرأة في الإسلام مهم، ولكنه لا يكفي بذاته، إن الاقتراب من الوضع النفسي للمرأة يطور من قدرتنا على تفسير التشريع، لقد تغيرت تشريعات الولاياتالمتحدة عندما نظر قضاتها في الآثارالنفسية للفصل العنصري، وقد لا تتغير تشريعاتنا بذلك بداية، ولكن قد تتغير نظرة أفرادنا نحو حال المرأة ما يمهد لتغيير تشريعي لاحق. وكخطوة أولى أقترح على كل رجل يؤمن بأن للمرأة حقوقاً أن يتبع تعليمات زوجته في السفر والخروج من المنزل، وليضع نفسه تحت ولايتها، ثم لينظر نوع الضيق الذي سيصيبه، هذا وهو يمثِّل وهو يقوم بالأمر موقتاً، فما أحوال من هذه حياتها؟ عندما نعمل هذا، عندما نقترب من معاناة المرأة، عندها يمكن لنا الحديث عن حقوق المرأة. [email protected]