ينظر رجال المصارف إلى ساحة جنيف المالية بقلقٍ حول مستقبلها، بعد الآثار الواضحة التي خلّفتها أزمة المال العالمية عليها خلال العامين الماضيين، لا سيما ارتباط أنشطة المصارف بتجارة المواد الخام التي تلعب جنيفُ فيها دوراً بارزاً. وأعلن رئيس اتحاد المؤسسات المالية في جنيف ايفان بيكتيه، في مؤتمر صحافي أول من أمس أعلن فيه نتائج الاستطلاع السنوي لنحو 6 آلاف مؤسسة مالية: «الشعور السائد لدينا أن أزمة المال التي ضربت معظم البلدان الصناعية، هي بالتأكيد الأكثر عنفاً منذ أكثر من 50 عاما». ويستند بيكتيه، الذي يملك مصرفاً خاصاً يحمل اسم عائلته، إلى سبر للآراء أجراه الاتحاد بين المصارف في جنيف، حول انعكاس الأزمة المالية على حاضر الساحة المالية في جنيف ومستقبلها، رصد فيه شعوراً «يصل إلى التشاؤم من تداعيات الأزمة على رغم مؤشراتٍ أن الأسوأ قد مر». وانخفض مجموع أصول إيدعات الاستثمار بين صيف 2008 وآذار 2009 نحو 50 في المئة مقارنةً مع ما كان قبل الأزمة، ثم استعادت ساحة جنيف المالية بعضاً الخسائر لكن الأصول الاستثمارية لم تصل إلى مستواها السابق. ولوحظ إحجام المستثمرين عن ضخ الأموال في المضاربات ذات الأخطار العالية وانخفاض كبير في أحجام التداولات. وانخفضت تالياً أرباح قطاع إدارة الثروات بين عامي 2007 و 2009 نحو 50 في المئة، ووقعت أكثر الخسائر في 2008. في الوقت ذاته يشير بيكتيه إلى «استفادة مركز جنيف المالي في السنوات الأخيرة من تمويل تجارة المواد الخام على اختلاف أنواعها، ما خفف من حجم الخسائر»، كما لوحظ قدر أكبر من استقرار الأنشطة المالية الدولية في شكل قروض واعتمادات في السوق السويسرية. ورصد استطلاع الرأي أن إدارة صناديق التحوط اجتذبت موارد مالية أكثر، «لكن النشاط في هذا المجال لا يزال متواضعاً جداً في جنيف لاستضافتها عدداً قليلاً من هذه الصناديق. ونوه بيكتيه إلى تقرير أصدرته وكالة «بلومبرغ» الثلثاء الماضي أفاد بأن 78 في المئة من صناديق التحوط التي انتشرت بعد الأزمة، استقرت استثماراتها في الولاياتالمتحدة و13 في المئة من نصيب بريطانيا بينما اكتفت سويسرا ب 2 في المئة فقط. ومن الطبيعي أن تلقي النتائج السلبية على أوضاع موظفي المصارف ومؤسسات المال في جنيف حيث فقد 950 منهم وظائفهم من بين 12500 موظف يعملون في هذا القطاع، وفي حين أعربت مؤسسات المال عن عدم نيتها تسريح عدد أكبر من موظفيها خلال العام المقبل، إلا أنها لا تتوقع فتح باب التوظيف قريباً. ويبقى عزاء ساحة جنيف المالية في أن قطاعها المالي لا يزال يجتذب ثروات جديدة من الشرق الأوسط وأحياناً روسيا على رغم ما وصفه بيكتيه ب »الهجوم العنيف من الخارج» بسبب تداعيات مشكلات التهرب الضريبي مع الاتحاد الأوروبي والولاياتالمتحدة وسرية الحسابات المصرفية، كما يمكن تحسين خدمات المؤسسات السويسرية مع هونغ كونغ وسنغافورة. ويتخوف صيارفة جنيف من ممارسة ضغوط سياسية جديدة على الحكومة السويسرية، قد تؤدي إلى اتفاقات جديدة بعد أن بدأت المصارف تفيق من صدمة تجديد اتفاقات منع الازدواج الضريبي مع 12 دولة من أهم شركاء سويسرا الدوليين واعتراف السلطات بإزالة التمييز بين الاحتيال والتهرب الضريبي. وتعود قوة ساحة جنيف المالية إلى القرن الخامس عشر لدى ظهور أول قوانين تنظم حركة رؤوس الأموال من وإلى المدينة التي تتمتع بنوع من الاستقلالية في قوانينها، ثم تعززت بقوة مع ظهور أول مصارفها الخاصة في القرن الثامن عشر، معتمدة على الاستثمار في التجارة الخارجية، ومنها جاءت شهرة جنيف كعاصمة لتجارة المواد الخام على رغم افتقار سويسرا إلى الثروات الطبيعية. ووفق بيانات مصرف مقاطعة جنيف الحكومي لعام 2009، فإن ثلث تجارة النفط في العالم يتم عبر شركات تتخذ من جنيف مقراً، وتسوّق أيضاً نحو 75 في المئة من النفط الروسي، كما تحتل المركز الأول عالمياً في تجارة القمح والزيوت النباتية والسكر، والساحة الأولى أوروبياً لتجارة القطن، وتمر 75 في المئة من تجارة الرز الحرة في العالم عبرها، وتعمل في تلك المجالات نحو 500 شركة حجم تعاملاتها 700 بليون دولار سنوياً ويعمل فيها نحو 60 ألفاً. وأعلنت مجموعة «بوسطن» الاستشارية أن سويسرا لا تزال أكبر مركز مالي خارجي أدارت أصولاً بقيمة 1.8 تريليون دولار في 2008.