«لا تبح بسرك للريح»، لأنك إن فعلت، ستدرك سرك الأشجار والأحجار والغيوم والنجوم، حبوب اللقاح، وقطرات المطر .. انثيالات الندى، والتماعة العشب التي تحت الشمس، والحشرات في العتمة .. ستدركه الغصون والأثمار، العصافير والفراشات، ولسوف تقله الأجنحة إلى آفاق بعيدة، ولسوف تحمله الأناشيد والنحيب والضحكات وحرقة الزقزقة.. ولسوف تستقبله النوافذ، والشرفات، والأبواب، والعتبات، وأسطح المنازل، وحبال الغسيل، والكوى وسائر الردهات.. سيصبح ذائعا كالعطر .. كالشذى الطالع للتو من فم الوردة .. وقد يستحيل عما قليل ذكرى في بياض الأثواب، وحلكة المعاطف .. وقد يستحيل ذاكرة لليدين، وصهيل نسوة، ومرايا غير مرئية في العيد والأعراس.. ستبوح به نافذة مشرعة لأختها الجهمة الموصدة. ولربما يتسلى بروايته العاطلون والمتسكعون والعابرون والتافهون والحمقى والمغفلون وسادة الأرصفة .. سيحمله الرصيف إلى الرصيف. والرغيف إلى الرغيف. والعملة إلى العملة. والشجرة إلى الغابة. والصوت إلى الصدى. والغريب إلى الغريب. والوجه إلى القناع. ولسوف تدفعه الحقائب إلى شقيقاتها. والقارب إلى القارب. والشراع إلى الشراع. والميناء إلى الميناء. وفي غمضة قلب ستحتفل به المرافيء كلها في حفلة العاصفة. .. لا تبح بسرك للريح .. إن الريح لنمامة .. تتقن سرد الوشايات ولا تتكتم على همسة أو آهة أو أنين. جامحة كالجياد، ولها صهوات لا تسقط راكبيها. إنها صنو الذيوع وتوأم الفضيحة. لها أذنان فارهتان، والكثير من الأفواه .. ولها أنف مريب، وألسنة عديدة.. و«الباطل يشحد الألسنة» ! عاطلة عن العمل. وليس ثمة ما تتسلى به سوى هتك الأسرار. ونقل الحكايات. وحمل الأخبار الرثة. والحشرات الهشة. والغبار الرهيف. وما يباح به في الغرف الموصدة والظلال الجهمة. والطرقات الحافية. والأسواق الصاخبة. والزوايا العمياء. والأسرة الدافئة. والأفق الضرير.. عابرة قارات هي. وجوّابة أزمنة. لا تحمل جواز سفر. ولا تنحني لتأشيرة. ولا تطأطيء رأسها لختم. ولا تتلكأ في رحيل. لا تقف في نقاط التفتيش، لا تمتثل لقوانين الإقامة والهجرة .. ولا تمكث عند الحدود. عصية على الجواسيس. ومستحيلة على العسس.. لا ترتهن لرشوة. لا تتلفت مذعورة مثل أرنب بريّ. لا تتصبب خوفا كمرشة. ولا ترتعد من مسدس أو هراوة أو جنرال. ليس للريح خزائن. أو حقائب. أو معاطف. أو إضبارات. أو أدراج. أو « جيوب « سرية. ولم تتدرب يوماً على حشو الأسرار في الأماكن الخبيئة كالشقوق في جذوع الأشجار. والفجوات في جدران البساتين وأسوار البيوت.. ولم تقلد طائراً يدسّ أعشاشه في الكوى القصية. أو بخيلاً يخبيء دنانيره البيضاء في الأمكنة المدلهمة. التي تنأى عن العيون، أو تحتجب عن الأصابع. الريح سيدة ثرثارة. أو مهرّج غبي. زغرودة في مأتم. أو نحيب في عرس.. جنازة في قرية. أو قبلة في سوق. جرس في مسجد. أو أذان في كنيسة. متبرجة. في مدينة من المحجبات. سفينة في صحراء. أو نياق في محيط. جمل في «الشانزليزيه» أو «ديزني لاند» في الربع الخالي. هي باختصار: العلن، والفضيحة، والهتك. تحرض الأعناق أن تستدير إليها وتفجأ الأفئدة .. إنها نقيض الأقنعة. والضمير المستتر. والعمل السري. وليست تنطوي على سريرة .. وهي التي تقيم في الفضاء العاري. المراثي والمسرات معا .. لا تحفل بالحجب. ولا تكترث ببلاغة الستائر .. ... فلا تبح بسرك للريح. * «لا تبح بسرك للريح» حكمة يابانية. ولقد نشر الدكتور شاكر مطلق كتاباً يتضمن مقتطفات من الشعر والحكم في اليابان تحت هذا العنوان. إلى هذا العنوان يعود الفضل في إذكاء جمرة هذا النص واندلاع شرارته الأولى.