تقلب الشاعرة الدكتورة فاطمة القرني معادلة العلاقة بين المرأة وما شاعت تسميته بالشعر «العمودي» إلى علاقة إيجاب وحضور وإثبات، فهي تكتب القصيدة بإتقان في قالب الأوزان العروضية الموروثة والمقفاة، مخالفةً بذلك ما كاد يستقر في وعينا من صفة تنافٍ في تلك العلاقة برهانها قلة الشاعرات السعوديات المجيدات اللاتي يكتبن الشعر الموزون المقفى. وهو وعي تولَّد عن التحول الذي اكتسبت فيه قصيدة التفعيلة وقصيدة النثر قيمة تحيل على زمن مختلف وجماليات جديدة مستمدة من ذات غير متعالية على الواقع والمعيش والراهن. وهي الذات نفسها التي اكتشفت مركزية الذكورة وهيمنتها الثقافية بحيث أصبح العمود الشعري رمزاً ذكورياً يضيق بالمرأة الشاعرة أو تضيق هي به فتكتشف في التفعيلة والنثر وجودها ومعانيها الإبداعية والإنسانية. ولهذا توالت وتجاورت أسماء الشاعرات في الأشكال الشعرية الجديدة بكثرة لافتة، فعرفنا – مثالاً لا حصراً- فوزية أبو خالد وثريا العريض وخديجة العمري وسلوى الخميس وغيداء المنفى وهدى الدغفق وأشجان هندي وبديعة كشغري وهيلدا إسماعيل... وغيرهن، تماماً كما عرفنا – في الحقبة نفسها- أسماء كثيرات يكتبن القصة القصيرة والرواية. في مقابل أسماء قلة يكتبن القصيدة في الشكل العمودي وأحياناً في تشبث صارم، وأبرزهن – مثالاً لا حصراً- ثريا قابل، والدكتورة مريم البغدادي، والدكتورة خديجة الصبان، والدكتورة إنصاف بخاري، والدكتورة فاطمة القرني، ويغلب عليهن إذا استثنينا ثريا قابل الصفة الأكاديمية والتخصص في حقل اللغة والأدب. وأعتقد أن السؤال الذي يواجهنا في هذا الصدد يتعلق بنسوية الكتابة الشعرية بقدر نسائيتها، خصوصاً في الشكل العمودي الذي طال انتهاكه لقيم الأنوثة، وأصبح بما يؤسس له من مركزية وتراتب وحضور عبئاً ثقيلاً على الوعي النسوي المتطلع إلى جدارة إنسانية تليق بالمرأة مثلما تليق بالرجل. في ديوانها “مطر” الصادر عن نادي الرياض الأدبي عام 2009، تواصل الدكتورة فاطمة القرني حفاوتها بالقصيدة العمودية، وافتنانها في تشييد قالبها الذي يشير إلى عمق تراثي مكين، وإلى استيعاب للغة، يحذق -من زاوية نحوية وبلاغية ومعجمية- تأليف جملها وتركيبها في نظام البحور والقوافي الذي يبدو من زاوية معاصرة وكأنه امتحان للمعرفة باللغة. ولهذا تُدِل الدكتورة وتتباهى، في غير موضع، بشعرها، من حيث هو دلالة على فروسية لغوية هي فروسية إحساس ورؤية وتعبير، تتجاوب ألحانها مع حنين الشعر ويقينه وجموحه وتطرفه!. ويبلغ إدلالها درجات من الفخر والاعتداد بالذات حتى وهي تقدم ديوانها فتلفت نظر قارئها إلى ما يسميه القدامى بالضرورات الشعرية لكن من زاوية أناها هي بوصفها فاعلاً يعي فرديته وذاتيته؛ وتطلب من القارئ تخريجها تحت اسم «الضرورات الفاطمية». وعلى رغم الجزالة التي تخيِّل للقارئ قدرة الشاعرة على امتلاك قياد التعبير والارتقاء في مذاهبه الفصيحة، فإنها حريصة، في أحيان، على انقياد هذه الفصاحة لها. وهناك ملمحان –على الأقل- دالان على إرادة الشاعرة الواعية في هذا الصدد، أولهما استخدامها في بعض القصائد كلمات عامية أو يومية مليئة بالحياة والحيوية، والثاني اجتراحها غضب بعض عتاة المعياريين من معلمي النحو من خلال بعض التراكيب الشاذة كتلك التي تجري على طريقة “الترضى حكومته”. ولن يخطئ القارئ من خلال ملاحظته لذينك الملمحين في الاستدلال على بهجة الشاعرة بهما، وهي تمد يدها لتتملك اللغة التي تعني الوجود بأسره، ولتعلن، على تصورات المدرسيين، نوعاً من الجور والعسف الذي يستحيل عند ابن جني إلى دلالات قوة وتحد وثقة، فمَثَلُها -بتعبيره- «مثَل مُجري الجموح بلا لجام، ووارد الحرب الضروس حاسراً بلا احتشام». وإذا كانت الدكتورة فاطمة تبرهن باتساعها في استخدام اللغة على القوة، فإن السخرية لديها دلالة حيوية وحركة وحرية وانتقاد وشجاعة، وهي دلالة تمنح مزيداً من شعور القوة والتفوق، فالسخرية تعبير عن شعور الانتصار، وعلماء النفس يقرنون اتساع الحس الساخر بارتفاع نسبة الذكاء. لكن سخرية الدكتورة ليست للّهو والفكاهة وإن توسلتهما، فهي ممارسة جادة لتعرية الواقع، خصوصاً في علاقته بالمرأة. ولهذا تتكئ على المفارقة، وتفضي إلى حس حزين مرير! وقصيدتها «على (المندي) أبو زيد ينام!» أحد الأمثلة على سخريتها المريرة، وهي قصيدة سردية تلتقي فيها بأم زيد بعد مرور عام فتُفجَع لهزالها، وتسألها باندهاش عن السبب؟ فتجيبها إنه “الريجيم”! وتذهب لتعداد أصناف أكلها البائسة، وأن وراءها سُلطة أبي زيد، زوجها، الذي تخشى هجرانه لها وزواجه بأخرى من ذوات الرشاقة! وتنال أم زيد في القصيدة وصفاً مسهباً بعض الشيء لنحولها وضعفها واهترائها، فيما تسرح الراوية متسائلة عن رشاقة أبي زيد! ويتكشف الواقع عن وصف كاريكاتوري لانتفاخ كرشه وامتلائه وشراهته...! وهو وصف يملي نهاية القصيدة التي تتجه فيها الراوية إلى أم زيد مقررة لها على سبيل الإنكار أو منكرة على سبيل التقرير أن ما تخاف منه لا سبيل إلى علاجه بما صنعت!. ويلفت النظر، في قصائد أخرى، تكرار صفة «الكرش» تلك أو لوازمها، التي تغدو بمثابة رمز نمطي لدى الشاعرة، للرجل المستبد الذي يمثل سلطة الذكورة النافية لإنسانية المرأة واجتماعيتها وعقلها. ويقابل موقف النفي والسلب الذي تقفه الشاعرة تجاه تلك السلطة موقف إيجاب وإثبات في مواضع عدة، أبرزها قصيدتها “أي لحن أتخير...؟” للرجل الإنسان. وهي قصيدة منبرية كما أثبتت في حاشيتها، إذ ألقتها أمام حضور نسائي في مكتبة الملك عبدالعزيز العامة، فكأنها قصيدة المرأة بصيغة الجمع. والعنوان سؤال تتخذ منه القصيدة بؤرة لتولدها وانبنائها، بحيث يتحول اللحن في صيغة العنوان إلى معنى الشهية أو الحاجة أو الاقتضاء، ومن ثم يسوغ استبداله بالجوع في متن القصيدة، في صيغة دالة على موقع الشاعرة الجمعي نسوياً: قيل: غني.. قلت:في/ ما ..أي جوع أتخير؟!/ جوعنا للحب من من/ كم بلا تهويم تسهر!». وهنا تواجه الاعتراض الذي لا يبيح للمرأة أن تتحدث عن أحلامها وعواطفها بما يتجه إلى الرجل تحديداً، لكنها تفكك الاعتراض بادعاء صغر سنها وبتخييل طفولتها ومن ثم فمن حقها أن تحلم. ويتكشف حلمها عن فتى في الغيب بصفات بسيطة لكنها في حكم الإعجاز والندرة، تقول: لي فتى في الغيب.. ل/ى أوسم مما يتصور/ كلما غنيته لح/ نا بلحني يتأثر/ يحسن الإنصات لا/ محض اصطخاب يتنمر/ ماهر في لم جرحي/ كلما جرحي تبعثر/ مثله إدرك إعجاز/ ولكن.. قد يقدر». وتنتهي بتوجيه سؤال تقريري بالمعنى المجازي إلى المخاطبات، عن من هي معها في حلمها هذا؟ ثم تلتفت بالسؤال إلى (نا) النساء بدلالة النفي لمن تنكر الحلم بمثل حلمها، أو أنها لا تنطوي على حلم مسوَّر بسر يمطرها كلما أجدبت الدنيا ويغنيها. ويرتبط بهذه المعاني الشعرية التي تفتح بها الدكتورة الشعر العمودي على الواقع وترهنه لإرادتها التي تحيل على وعي ثقافي ونسوي متجاوز، تأكيدها على مدلول الفرح والبهجة ووظيفة اللعب في الشعر. ولهذا المدلول أهميته لديها إذا أخذنا في الاعتبار رسوخها في العمودية، حتى وهي توزع – أحياناً- تفعيلاتها على أسطر سرعان ما يكتشف القارئ أنها مقفاة بما يعيدها إلى بناء الشطرين المتناظرين موسيقياً. والسبب الذي يجعلنا نعلق أهمية مدلولها ذلك على عموديتها هو الوجه الصارم والجدي وأكاد أقول العنيف الذي لازم القصيدة العمودية في تلقينا الحديث، إذ أصبحت قرين التقليد والمثالية والتجريد بقدر ما هي قرينة الوعظ والسطحية ومألوف الأغراض القديمة. * كاتب سعودي.