صدر عن الشبكة العربية للأبحاث والنشر في بيروت أخيراً كتاب «أيام مع جهيمان» للكاتب ناصر الحزيمي. ويعدّ الكتاب الأول من نوعه في توثيق حركة إسلامية محليّة لم يكتب عنها من قبل وهي «الجماعة السلفية المحتسبة»، وشهادة من داخلها، عبر أحد المنتمين إليها. وعلى رغم أن الحزيمي أضاف عنواناً فرعياً للكتاب «كنت مع الجماعة السلفية المحتسبة»، إلا أنه لا يحكي مذكراته الشخصية وتجربته مع الجماعات الإسلامية وحسب، بل يكشف من خلال السرد المباشر، والتتبع التاريخي قصة هذه الجماعة، متناولاً أسرار بداياتها وتحولاتها وتأزمها وما آلت إليه بما عرف ب «حادثة الحرم» والتي صدمت العالم الإسلامي بداية القرن الهجري الجديد، حين مسّت أطهر البقاع المقدسة بشعارات إسلامية توهمت الخلافة. وليس الأسلوب السردي المباشر ما يميّز هذه المذكرات، بل إضافة إليها تأتي حكاية الحزيمي متماسكة إلى حدّ بعيد، يروي مادتها الخام، كما حدثت، بهدوء وبلا انفعال، ومن دون حاجة لتبريرات وتحليلات، ما أسهم في تقديم معلومات قيّمة وثرّية عن الجماعة من جهة، وأخرى مثيرة من جهة أخرى، لمن شكّلت شخصية «جهيمان» عنده غموضاً لم تزله الروايات الشفاهية الناقصة والمتقاطعة. يحتوي الكتاب، (180 صفحة)، على متنٍ رئيسي و4 ملاحق. في المتن يروي الحزيمي حكاية الجماعة السلفية المحتسبة، جنباً إلى جنب مع تجربته الشخصية، ومن خلال سردٍ مكانيٍ وزماني تسلسلي، وسياقات معقولة يستهل مذكراته بمشاهد عن بدايات الصحوة الإسلامية، والمناخ العام للحركات الدينية في الكويت والسعودية، قبل أن ينتقل ومن خلال المعايشة ويكشف غموض شخصية جهيمان وأفكاره وما تعرضت له من إضافات وتخمين، إضافة إلى معلومات عن الجماعة منذ نشأتها وحتى انشقاقها. أما في الملاحق، فقد أرفق الحزيمي بحثاً عنونه «الأمة الحالمة: دور الحلم في تكريس الخطاب الإسلامي السلفي» كان قد أعدّه لكتاب آخر عن دور الحلم في صناعة الحدث، مستشهداً بحادثة الحرم كمثال حيّ. وفي ملحق ثان أعاد المؤلف نشر تفاصيل تسجيلية لخطبة الحرم التي ألقتها الجماعة صبيحة الحادثة، وتوجيهات قائدها الحركي. فيما يأتي الملحقان الآخران كحوارين مع المؤلف، أحدهما إلكتروني، والآخر صحافي لم ينشر، حاولت بعض الأسئلة الحصول على تفاصيل لم ترد في متن الكتاب. في بداية الكتاب يحكي الحزيمي تجربته في الانضمام للجماعات الإسلامية بعد انحسار المد اليساري، ونمو المشاريع الإخوانية، بدءاً من بلدته الزبير، ثم الكويت، فالرياض، وانتهاءً بحلق العلم الشرعي في الحرم المكي وفي معهد دار الحديث، ومروراً بالمدينة وبريدة. في فصل عن الرياض يتناول جانباً من سماحة مؤسسة الحسبة أواخر السبعينات، وبداية نشوء التسجيلات الإسلامية، قبل أن ينتقل في فصلين تاليين، متحدثاً في الأول بإسهاب عن مكة ومراحل تلقيه العلم الشرعي على عدد من المشايخ، وبداية تعرفه على بيوت الأخوان، ولقائه بشخصياتهم، وبجهيمان، وملازمته في زيارات الجماعة الدعوية الخلوية في قرى الحجاز. كما يستعرض في فصل المدينة تفاصيل ما يدور في بيوت الإخوان في الحرة الشرقية، ويقدّم معلومات مثيرة عن ملامح الجماعة الداخلية وتأسيسها عام 1965 ومباركتها من علماء كبار، وتحولاتها في ما بعد وجدال قادتها بين ما يعتقدونه، وما يعايشونه، قبل أن تتأزم العلاقات بينهم، وتختلف رؤاهم الفقهية حول عدد من المسائل، نتيجة احتكاكهم بجماعات إسلامية من الخارج مثل الفكر التكفيري، وهو ما أدى لانشقاق الجماعة عام 1978. ويقدّم في هذا الفصل قصص هروب مؤسسي الجماعة واعتقال بعضهم، وعودة بعضهم إلى الرياض. اللافت في مذكرات الحزيمي أنه خصص فصولاً للحديث عن جوانب مهمة عن جهيمان وعن حياته الصحراوية، وصف فيها الظروف الحياتية التي مرّ بها، والتطورات الشخصية والمواقف النفسية ودوافعه قبل وبعد تأسيس الجماعة، إضافة إلى جانب من حياته السابقة مثل عمله في التهريب، والتحاقه بالخدمة العسكرية، وتركها. كما يسلّط الضوء على عدم إكماله دراسته سواء النظامية أم في معهد الحديث، وتجاهله علوم اللغة والنحو والإعراب، واقتصاره على الفهم النصوصي، وهو ما شكّل موقفاً أثّر في ما بعد على تصوراته الشرعية، وعلى شروط الاجتهاد عنده. كما يتناول الحزيمي رسائله سواءً الحقيقية أم تلك التي نسبت إليه، وظروف طباعتها وتوزيعها، من أهمها رسالته الأولى «بيان رفع الالتباس» التي أحدثت الانشقاق في الجماعة. ويصل الكتاب ذروته عندما يفصّل الحزيمي في رؤية جهيمان لمفهوم الحاكميّة، ربطها بالملحمية الحتمية التي تبدأ بعهد النبوة والرسالة ثم الخلافة ثم الملك العاضّ ثم الملك الجبري، حتى تصل للحل المزعوم بالخلافة على منهج النبوة، وهو ما توهم أنه سيكون على يديه من خلال اختياره المهدي المزعوم، وكيف ساهمت الرؤى والأحلام وبعض الأوهام من تحقق أشراط الساعة، في انحراف تطبيق الملحمية على الواقع، حتى آل الحال إلى تخطيط حادثة احتلال الحرم والتي عرض الحزيمي قصتها في فصل مستقل كتبه بناءً على عدد من الروايات التي جمعها أثناء اعتقاله. إن اتكاء الكتاب على الأسلوب السردي السهل، وخلوه من التحليلات المفرطة، كما تقول مقدمته التي كتبها عبدالعزيز الخضر، جعله يملأ بامتياز فراغات لم تسدّ حول الجماعة السلفيّة المحتسبة، ويجيب عن أسئلة ظلت عالقة مدة طويلة عن حادثة الحرم، خلافاً لدراسات وكتب ومقالات تناولت الجماعة بطريقة لم تخلُ من التناقض والاستنتاجات السياسية والاجتماعية غير الدقيقة. ومن هنا تأتي أهمية الكتاب ضمن النطاق الإسلامي، وليس على النطاق السعودي فقط، إذ كان تاريخ حادثة الحرم ولا يزال تاريخاً فاصلاً اختلفت بعده رؤية السعوديين لقضاياهم، ولهذه الأسباب يتوقع أن يشهد الكتاب إقبالاً في معرض الرياض للكتاب.