كان الشفَق. وثمة احتفال سري بانتصار القصيدة الجديدة، واندحار أساطين التقليد الثقافي. هي زهوة الانتصار العسير الذي امتدّ عقد الخمسينات بكامله، لتصعد قصيدة «التفعيلة» ظافرةً في بغداد والقاهرة ودمشق وبيروت. في هذه اللحظة بالتحديد، خرج أُنسي الحاج «لن يدري أحدٌ من أين» وسط البهجة والزهو والنشوة الغامرة، ضدّ السياق، ليعكّر صفو اللحظة النادرة، بأفكار وتصورات ونصوص صادمة للحركة الشعرية العربية التي انتزعت بالكاد الانتصار بشقّ الأنفس. هو ديوان «لن» الذي صدرت طبعته الأولى العام 1960، بمقدمته الشهيرة، التي أصبحت إنجيلاً حقيقيّاً للقصيدة التالية، «قصيدة النثر». قصائد خارجة على ذهنية وخيال الشاعر التفعيلي، التي تؤسّس لمنطقٍ ما شعري، في بنية القصيدة وبنية الصورة الشعرية، لا يبتعد كثيراً عن المنطق التقليدي، وتأسيس لحدود التجديد الجزئي، التي تنقل محور القصيدة من مركزية «البحر» الوزني إلى مركزية «التفعيلة» (وثن الشعر الجديد)، باعتبارها المكوِّن الأوَّلي ل «البحر». تجديد جزئي، لكنه كان يبدو- في ذلك الحين- لدى أنصاره «ثورة شاملة» هائلة، استدعت استخدام «الحرس القديم» (وبينهم أسماء مرموقة فعلاً) لكل أسلحة الترسانة الثقافية، وغير الثقافية، حتى المحرم ثقافيّاً منها (كاستعداء السلطات على الشعراء الجدد، باعتبارهم «عملاء» للغرب!). لكنّ قصائد ديوان «لن» تكشف عن ذهنية وخيال آخرين؛ بلا أسلاك شائكة أو خطوط حمراء؛ هي فاعلية الخيال مطلق السراح تماماً، خارج كل منطق شعري يعرفه الشعر العربي، القديم أو الحديث؛ خيال يؤسس لعلاقات لم ترِد على بال شاعر، ويربط بين ما لا يرتبط في الواقع أو الشعر؛ يمنح الأشياء والعناصر سمات تتناقض مع سماتها الأصلية وتكوينها الجوهري، بل يعيد تشكيلها وصياغتها ومنحها فاعلية نوعية متحررة من فاعليتها السابقة؛ خيال يعيد تأسيس وتأثيث العالم وصياغته وتسميته، يعيد صياغة السمات والعلاقات واختراع حركية جديدة مفارقة للمكونات والعناصر المختلفة. ليس هو البصر، بل البصيرة. مع هذا الخيال الفريد، تتجاوب فاعلية الذهن المفتوح على مصاريعه، بما يشارف الجنون واللاوعي. ذهن متحرر من كل ما هو تقليدي بالفعل، من كل ما هو مُسبَق في الشعرية العربية، على مدى القرون، ومن كل سلطة قبْلية لأي نص أو صوت شعري أو نقدي. لكنّ المقدمة التي تصدرت الديوان لا تقل أهميةً وقيمةً عن النصوص الشعرية؛ بل هي- بأفكارها ورؤاها الصادمة آنذاك - التي كسرت إمكان «التجاهل» أو «التواطؤ بالصمت» على النصوص الخارقة، ودفعت إلى تلقي النصوص ضمن رؤية مغايرة، معاكسة للسياق العام، بلا إمكانية ل «تأميمها»، على أي نحو. رؤية ترصد أهم مكامن القصور في الشعرية العربية المهيمنة، سواء التقليدية أو «المحدثة- التفعيلية»، كقصور جوهري لا سبيل إلى إصلاحه، أو ترميم عيوبه؛ وتقترح - في الوقت نفسه - «قصيدة النثر» كأفق ضروري لإنجاز تطور حقيقي للشعر العربي. هي المرة الأولى التي تُطرح فيها رؤية متسقة عن تلك القصيدة، في الكتابة العربية، بالاستناد إلى كتاب سوزان برنار الشهير؛ رؤية مفارقة لذلك الزمان، مؤسسة لما سيجيء ابتداءً من السبعينات الشعرية العربية. ولا تراجع- في كتاباته التالية- عن تلك الرؤية والمنهج، كما فعل آخرون سرعان ما تنكروا لخطاهم وبصماتهم؛ بل هو مواصلة تأسيس وتطوير قصيدته النثر الفريدة، وترسيخ رؤاه المختلفة المتعلقة بالشعر والوجود. أنسي الحاج: رمز الخروج على السياق.