يكتب القاص والكاتب العماني محمد اليحيائي تحت ضغط الفكرة وإلحاحها، ولا يكتب لمجرد أنه كاتب وعليه أن يكتب، «أكتب لأن هناك ما «وجب» قوله أو كتابته». ينتمي اليحيائي الذي يرى أنه ليس ملتزماً بشيء ويعتبر أن الفن التزام في ذاته، إلى صنف من الكتاب لا يجلسون يومياً إلى طاولة الكتابة ساعات محددة إما يكتبون أو ينتظرون الإلهام، صنف لا يكتب سوى تحت إلحاح شديد، ومع ذلك هو يحذر الكتاب من «الفكرة الملحة»: «من انتظار هذا الإلحاح أو الضغط أو من عدم انتظاره والتنبه إليه ومعرفته واستيعابه والاستعداد له، فبالمقدار الذي نكره فيه الالتزام ككتاب علينا الاعتراف بأن للفن قوانين وإشارات علينا معرفتها واستيعابها، حتى يُمكن الالتفاف عليها وكسرها عند الضرورة». يمثل اليحيائي لحظة خاصة جداً في المشهد السردي الخليجي، لحظة على مقدار كبير من الأهمية، وتعتبر كتاباته القصصية متجاوزة زمنها وواقعها، بل إنها تقف بندية، إضافة إلى تجارب سردية قليلة، في مواجهة هيمنة الشعر وسطوة الشعراء، في منطقة الخليج. فتجربته السردية العميقة بما تثيره من أسئلة شائكة، وما تعبر عنه من ذوات مأزومة في واقع لا يكترث لها، شكلت مدونة فريدة لاستجلاء عذابات الإنسان في الخليج، وكشفت عن مأزقه مع المجتمع وسلطاته المختلفة. ولد اليحيائي وتربى في بيت «ملتزم» على نحو من الأنحاء، بقضايا الناس. والده «شيخ قبيلة» مهمته اليومية النظر في مشاكل الناس وخلافاتهم والبت فيها، الانتصار للمظلوم وأخذ الحق له بالتراضي «وفق قانون القبيلة وأعرافها». وحين يعجز ويصر الظالم على ظلمه، تذهب المشكلة إلى الدولة. عاش صاحب «خرزة المشي» إلى جوار أبيه سنوات طويلة، عايش وشاهد معه الكثير من التجارب وقصص «الظالم» و «المظلوم» و «الحقوق المنتهكة»، تشبع بكل ذلك وتأثر ببعض القصص «وبعضها شكل حساسيتي تجاه أزمة الإنسان وأسئلته الوجودية وأولها سؤال الخير والشر. تلك التجارب والقصص الغنية بالمعاناة والمآسي و «الأزمات» شكلت أيضاً المنطلقات الأولى لما وجدتني فيه، لاحقاً، وهو الانحياز إلى قضايا الناس، ثم تحول قضايا الحريات وحقوق الإنسان إلى مركز انشغال أساسي بالنسبة إلي كصحافي كما ككاتب». تتميز قصص اليحيائي بالاحتدام والتوتر والشغب، بيد أن ذلك لا يبدو سوى التجلي لروح قلقة ولذات لا يبدو أنها تعرف المهادنة، وفقاً لمواقفه التي تعكسها كتاباته نفسها بوعي وبفنية عالية، وأيضاً بالنظر إلى انحيازه إلى قضايا بعينها يطرحها في برنامجه «عين على الديموقراطية» قبل أن يتركه ويغادر قناة «الحرة» في واشنطن، «أنا شخص قَلِقٌ، ملولٌ أحياناً لا أقيم طويلاً، لا في فكرة ولا في مكان، أهوى التنقل والسفر والتغيير. الذي ينطبق على الأمكنة ينطبق على الأفكار» يصف اليحيائي أحواله ككاتب ويضيف قائلاً: «إنه لا يخشى الهدم إذا ما اكتشف خللاً في البنيان، ولا يتردد في العودة من منتصف الطريق أو حتى من نهايته، إذا ما اكتشفت أن الوجهة خاطئة أو شعرت بالملل، لعل لهذا القلق انعكاساً في النصوص التي أكتب». لعلنا من هنا نفهم إصرار اليحيائي على مواصلة الكتابة في جنس القصة القصيرة، فهي، كما يظهر، تناسب القلقين أمثاله من «الحذرين والمتوجسين حد التطيّر من ثبوت ولا نهائية الأشياء والحقائق». لكن، هل يعني هذا أن كتاب الرواية أقل قلقاً وأكثر قبولاً وتسليماً، بثبوت ولا نهائية الحقيقة والأشياء؟ يسأل اليحيائي ويجيب في الوقت ذاته، «كافكا، بالطبع، يدحض رأياً كهذا، جيمس جويس «الممل»، قبل كافكا، يدحض كلاماً كهذا أيضاً، لم أقرأ كاتبين قلقين متطيرين مثل جويس في «عوليسيس» على وجه التحديد، على رغم أنها بين الأعمال الأكثر طولاً في تاريخ الرواية، وكافكا في عمله الساحر «المسخ». الانتقال من سرعة إلى أخرى، بمنطق قانون السير وقانون القص أيضاً، تحتمه الخبرة والمعرفة بالطريق. لا أعرف ما إذا كنت أعرف الطريق لكني أبدل وأراوح بين سرعاتي، لأن الريح تحرك القلقين الجالسين عليها، وفق شيخنا المتنبي العظيم، فلا يزمع الواحد منا مقاماً حتى يعلن الرحيلا». لن يغيب عن القارئ الجو الشعري والتفاصيل والالتقاطات الذكية في قصص اليحيائي التي تصنع لحظة إبداعية قلما نطالعها هذه الأيام في قصة قصيرة، فهو كأي كاتب يحركه هاجس البحث عن صوته الخاص، يعمل على إيجاد معادلته أو نكهته. يرى صاحب «يوم نفضت خزينة الغبار عن منامتها» الكتابة والفن عموماً، بصفتهما ضرباً من السحر، وأن الكاتب الساحر هو الذي يجمع، «بقصد أو من دونه، الواقع بالخيال، العجيب والمفارق بالمألوف والمعروف، النقائض والمتشابهات بعضها إلى بعض كي يصل إلى ما وصفته في سؤالك بالجو الشعري التفاصيل والالتقاطات التي تصنع لحظة إبداعية». غير أن هذا الوصول لا يتحقق، كما يقول، سوى حين ينتقل القارئ من موقعه كمتلقٍّ إلى مشارك في حركة النص، «القارئ لا ينتقل من تلقاء ذاته، إنما بفعل صاعق يرجّه ويجعل منه مشاركاً متفاعلاً ثم شريكاً». يدافع اليحيائي عن القصة وكتابها في عمان، نتيجة الظلم الذي وقع عليهم، بسبب سطوة الشعراء وحضورهم، إذ إن عمان عرفت على الصعيد الأدبي ولا تزال بشعرائها الذين تركوا بصمة واضحة في المشهد الشعري العربي، وليس فقط المحلي، ومنهم سيف الرحبي وزاهر الغافري وسماء عيسى وعبدالله الريامي ومحمد الحارثي وسواهم. وعلى رغم وجود أسماء مهمة وتجارب لافتة قصصياً، إلا أن الشعراء دوماً الأكثر بروزاً. لكن اليحيائي يدحض، في سياق دفاعه عن كتاب القصة، هذه السيادة للشعر في الوقت الحالي، فهو يرى أن طغيان الشعراء في المشهد الأدبي العماني، أصبح شيئاً ينتمي إلى التاريخ، وأن كتاب السرد نجحوا في قلب الموازين، «اليوم، من يتأمل ويقرأ المشهد الأدبي في عمان فسيلاحظ، من دون عناء، أن السرد هو الذي يتسيد المشهد ويحكمه ويرسم ملامحه راهناً ومستقبلاً وليس الشعر، الشعر تراجع كثيراً، لا أسماء جديدة تلفت النظر، منذ جيل الثمانينات ذي المغامرات الإبداعية والحياتيه المدهشة أمثال محمد الحارثي وصالح العامري ومبارك العامري وعبدالله الريامي، بعد هذه الأسماء لم تُنتج عُمان شعراء مهمين باستثناء أسماء قليلة أحمد الهاشمي وهلال الحجري وعلي المخمري مثلاً - هنا أنا لا أتحدث عن الأسماء التي سبقت كسماء عيسى وزاهر الغافري وسيف الرحبي وسعيدة خاطر». لكن، لماذا لم يبرز هؤلاء عربياً طالما هم متميزون وقدروا أن يدفعوا الشعراء إلى مرتبة تالية؟ يؤكد اليحيائي أن المشكلة في عدم بروز هؤلاء تكمن في «التسويق» الذي يعيق أسماء مثل سليمان المعمري وجوخة الحارثي وهدى حمد ومحمود الرحبي ومحمد سيف الرحبي وزهران القاسمي وعبدالعزيز الفارسي وحسين العبري وبشرى خلفان وهلال البادي، في الظهور في الشكل الذي يليق بتجاربهم المتقدمة، «لدينا ضعف في عمل المؤسسة الثقافية، الأهلية والحكومية، ضعف شبه مزمن». يوضح اليحيائي أسباب المشكلة، ويذكر أن جمعية الأدباء والكتاب والنادي الثقافي قاما بمحاولات وجهودة جيدة في السنوات الأخيرة لكنها ليست كافية، «لعل المطلوب خطة أو برنامج عمل أكثر تماسكاً ووضوحاً، أيضاً لا يوجد في عمان دور نشر تتبنى نشر الإنتاج الأدبي وتقديمه إلى الساحة العربية بصورة منافسة واحترافيه، أخيراً ظهرت دار نشر واعدة يديرها كاتب قصة هي دار الغشام التي يديرها محمد سيف الرحبي لعلها تقوم بدور ما في التعريف بالإنتاج المتميز للقصة والرواية في عُمان». من ناحية أخرى وكشخص جرب الاغتراب كمعظم الأدباء العمانيين، ينشغل صاحب «طيور سوداء طيور بيضاء» بالمنفى والاغتراب والعيش في اللامكان، على الأقل هذا ما يمكن أن يستشفه القارئ من ترجماته القليلة لبعض الكتاب مثل ديفيد آبليفايد، وسوزان.م.تيبرجلين، وفيها تتجلى أسئلة المنفى والعيش في أكثر من جغرافية، «أفهم، بحكم إقامتي طويلاً في الغرب، معنى الاغتراب، بالمعني الجسدي والنفسي، معنى العيش في أكثر من لغة والتفكير بأكثر من لغة. لكن، دعني أقل لك، البعد يجلو الرؤية والاغتراب يُقرّب». ويلفت إلى أن مفهومي المنفى والاغتراب تغيرا كثيراً عما كانا عليه قبل خمسين أو ثلاثين سنة، «الأرض باتت مسطحة والزمن سيّال والساعات تتشابك وتلتقي. لا غربة اليوم، بمفهوم الغربة الذي عرفه المهاجرون والمنفيون قديماً، لذا أختار، في النصوص التي ترجمتها والتي أعمل على ترجمتها، تجارب عاشت «بين الأوطان» وبين اللغات، تجارب تكشف البعد الجديد المختلف للمنفى، تجارب بعض منفيي ومهاجري الأربعين عاماً الماضية، من الأميركيين الذين عاشوا في أوروبا والأوروبيين الذين عاشوا في الولاياتالمتحدة والتي تكشف هذا التداخل والاختلاط بين الوطن والمنفى، لغة الحلم «الوطن» ولغة الصحو «المنفى». الإحساس الوحيد الذي لم تغيره الجغرافيا الجديدة للمنفى ولا وسائل الاتصال والتواصل الحديثة، هو الحنين الذي تباغتك ضرباته وتقض مضاجعك». يروق لبعض المثقفين في الخليج هذه الأيام الحديث عن ربيع ثقافي، ينبغي أن تنهض به مدن خليجية، كونها مستقرة وتتوافر على إمكانات مادية هائلة، من جهة ومن جهة أخرى باعتبار أن عواصم المركز مشغولة بتداعيات ربيعها، لكن اليحيائي يظن أن هذه العواصم غير قادرة على القيام بأدوار تنويرية مركزية، والأمر، كما يقول، لا يتعلق بالاستقرار السياسي والقدرة الاقتصادية، «ولكن بالخبرة البشرية والتراكم المعرفي ورسوخ المؤسسات، بتقاليد عمل وحياة مدينية راسخة». ويرى اليحيائي أن الهدف من المهرجانات الثقافية والفنية التي تنظمها بعض عواصم الخليج ويصرف عليها ببذخ، وتستقطب لها أسماء كبيرة من العالم، ليس التأسيس لأدوار ثقافية اجتماعية، إنما «لبناء سمعة إعلامية ودعائية في الخارج»، لأن الداخل، «ليس مهماً بدليل أنه وفي الوقت الذي تستدعي بعض هذه الدول مثقفين وفنانين من الخارج، تقوم باستبعاد وتهميش وإقصاء كثير من مثقفيها وكتابها وفنانيها»، مؤكداً تراجع البحرينوالكويت ثقافياً، بصفتهما سبقتا باكراً بقية دول الخليج إلى الثقافة. على أنه وعلى رغم ذلك، لا يزال، في رأيه، مجال للتفاؤل، «بتولي مثقفين كالآكاديمي والكاتب عبدالله الحراصي في عُمان والروائي طالب الرفاعي في الكويت مواقع قيادية في المؤسستين الإعلامية والثقافية، لعلهما يتمكنان من تغيير الصورة النمطية لعمل المؤسسة الإعلامية والثقافية في هذين البلدين وأن يقربا هاتين المؤسستين أكثر من قضايا الناس وأسئلتهم اليومية». ووفقاً لهذا الاستيعاب الدقيق للمشهد الثقافي الخليجي، فإنه يعتقد أن هناك أسئلة مطروحة اليوم بإلحاح على المثقف في الخليج أكثر من سواها، مثل الاقتراب أكثر من قضايا الإنسان وأسئلته اليومية، «سؤال الإنسان هو السؤال الجوهري «الناقص» في كثير من الإنتاج الأدبي والفني والثقافي عموماً في هذه المنطقة، الإنسان ليس بصفته مادة ولا فولكلوراً للتسويق كما يفهم البعض، ولكن، بصفته «قضية» أصيلة للنص الأدبي أو العمل الفني. السؤال الجوهري الآخر الغائب هو سؤال الحوار، لا يتحاور المثقفون في ما بينهم ولا في ما بينهم وبين المؤسسة السياسية».