من أهم السلع التي تصدرها مصر وتقبل عليها كل الدول هي عقول أبنائها وأياديهم وحناجرهم. إذ تمد مصر الدول العربية والأفريقية بكفاءات تشمل مهندسين وأطباء وخبراء ومدرسين وفنيين. وزوّدت مصر أوروبا وأميركا واليابان بآلاف العلماء، حاز بعضهم جائزة «نوبل». وكذلك تُقبل كثير من دول العالم الإسلامي على مُدرّسي اللغة العربية وأئمة المساجد والمقرئين من المصريين. عوائق أمام الكفاءة في المقابل، برزت عوائق أخيراً أمام سفر الكفاءات المصرية إلى الدول العربية لأسباب كثيرة. وعلى غرار ذلك، انخفض ترحيب الدول الأوروبية والأميركية بالدارسين المصريين، خصوصاً بعد هجمات 11/9 الشهيرة. كذلك ازدادت منافسة العمالة الآسيوية للكوادر المصرية في الأسواق العربيّة، على رغم خطرها على ثقافة العرب وقيمهم. وقلّص نظام الرئيس المخلوع حسني مبارك مساعداته الفنيّة والعلميّة إلى الدول الأفريقية والإسلامية. والأهم من ذلك أنه لم يحرص على إيجاد فرص عمل تستوعب المتخرجين الجدّد. وبأثر هذه العوامل وغيرها، يتراكم آلاف من حملة درجتي الماجستير والدكتوراه في مصر، وهم في حال بطالة عن العمل، على رغم مهارة أياديهم وبريق عقولهم. ولمقاومة هذه الحال، أنشأ بعض هؤلاء صفحة على «فايسبوك» بعنوان «لا لبطالة حملة الماجستير والدكتوراه». وبسرعة البرق، وصل عدد المشتركين فيها إلى 3885 عضواً. كما نظّموا احتجاجات جرت إحداها أمام منزل رئيس الوزراء المصري، كما سبق أن تجمهروا أمام مقر «جماعة الإخوان المسلمين» واعترضوا موكب الرئيس مرسي الذي وعد بتوظيف 9 آلاف منهم. وسرعان ما لاحظ بعضهم أن الوظائف التي عرضها مرسي عليهم كانت متدنيّة قياساً إلى مستوياتهم العلميّة. هناك من يرى أن الحكومة المصرية تستطيع أن تعمد إلى استبدال معوناتها المالية للدول الأفريقية بمساعدات فنية وعلمية وثقافية، مع التركيز على الصومال وجنوب السودان ودول حوض النيل. وفي وقت سابق، أرسل «الصندوق المصري للتعاون مع أفريقيا» ما يزيد على 8 آلاف خبير إلى دول أفريقية. وهناك أفق مفتوح لتعاون مماثل مع صناديق التنمية العربية، ك «الصندوق السعودي للإنماء» و»صندوق أبو ظبي» و»المصرف العربي الليبي الخارجي»، و»البنك الإسلامي للتنمية». وفي السياق عينه، من المستطاع تدريب بعض الكوادر العلميّة المتقدّمة لإرسالهم للعمل خبراء وأساتذة جامعات للدول المستفيدة من تمويل من هذه الصناديق. ومن الممكن أيضاً الاستفادة من اتفاقيّات تبادل الخبراء والمدرسين والأطباء بين مصر ودول أفريقية في هذا المجال. وهناك حاجة في السودان إلى خبراء في السلع الغذائية. وفي الآونة الأخيرة، خصّصت اليابان 750 مليون دولار لمساعدة أفريقيا. كما نظّمت، بالتعاون مع مصر، مؤتمراً لدعم التنمية في أفريقيا، ما يفتح أفقاً أمام عمل خبراء مصريين في السوق الأفريقية الواسعة. وهناك تجربة ناجحة تتمثل في ابتكار قمح يتلاءم مع الظروف البيئية في موريتانيا، على أيدي خبراء مصريين. وفي سياق مماثل، تستطيع وزارة الأوقاف تصدير وعّاظ إلى المراكز الإسلامية في دول أفريقيا والاتّحاد السوفياتي السابق، خصوصاً أن الأزهر يرعى عشرات المعاهد الدينية. وتحتاج تركيا أيضاً إلى كوادر لتدريس اللغة العربية والدين الإسلامي. وثمة حاجة مماثلة في دول أوروبا وأميركا، حيث يندر وجود عرب يعملون مدرسيّن للغة العربية. كما يمكن العمل على مبادلة بعض ديون مصر لدى الولاياتالمتحدة وأوروبا، بمنح دراسية تركز على تمكين المرأة ودمج الأقليات والمهمشين وتعميق الحوار بين الحضارات. إعادة هيكلة منظومة التعليم تعاني الجامعات والمدارس المصرية من زيادة حادة في كثافة الطلاب، ما يتعارض مع التقدّم بعصرنة التعليم والارتقاء بجودته. ويمثّل الأمر فرصة لحملة الماجستير والدكتوراه للعمل في هذا المجال، ولو لمجرد الحصول على خبرة تساهم لاحقاً في تحسين فرص عملهم في دول الخليج وليبيا. وللغاية عينها، من المستطاع توظيف حملة الشهادات العليا في «وادي التكنولوجيا و»مراكز البحث العلمي» بعقود موقتة. وهناك اقتراح آخر بتعديل نظم الجامعات المصرية ما يسمح بالانتقال من تخصّص إلى آخر قريب منه، أو الجمع بين تخصصين. فمن المستطاع لحملة ماجستير في البيولوجيا أن يتقدموا لدراسة الدكتوراه في مجال نظم المعلومات الحيوية أو التقنية الحيوية. ويطلق على هذا الأمر مصطلح «التخصّصات المُتَداخِلَة» enter disciplinary والتي أصبحت شائعة ومقبولة في الدول الأوروبية والأميركية. ويعتقد الدكتور مجدي سعيد، رئيس تحرير مجلة «نيتشر»، أن الظروف الاقتصادية والأمنية والسياسية الصعبة التي تواجه المصريين تحتاج إلى جهود آلاف الاختصاصيين في علوم النفس والاجتماع. وتبرز حاجة إلى هذه الجهود في المدارس والجامعات والمؤسسات الحكوميّة والأحياء العشوائيّة. وثمة اقتراح بتقديم قروض ميسرة لبعض أصحاب التخصّصات لإنشاء مراكز تدريب في اللغات والحاسوب وصيانة الأجهزة الإلكترونية وغيرها. وخلاصة القول إن الفشل في حلّ مشكلة حملة الماجستير والدكتوراه في مصر قد يؤدي إلى إهدار المورد الأهم في التنمية: العنصر البشري.