على رغم مشاركة غالبية الأطراف اليمنية في مؤتمر الحوار الوطني واحتفالها رسمياً باختتامه في 25 كانون الثاني (يناير) بعد مخاض عسير دام أكثر من 10 أشهر استمرت حالة التربص بالآخر مهيمنةً على مختلف القوى في سياق تسابقها لضمان موقع في دولة الأقاليم الاتحادية المرتقبة بما يتلاءم وحجم طموحاتها في السلطة والاستحواذ على مفاصل الدولة المهمة. وإلى جانب تنامي هجمات تنظيم «القاعدة» في جنوب البلاد وتصاعد أنشطة الفصائل المتشددة في «الحراك الجنوبي» المطالبة بالانفصال تكمن أبرز تحديات المرحلة الراهنة في اليمن على الإطلاق، في المخاطر الحقيقية التي بات ينذر بها الصراع المحتدم على النفوذ بين القوى المذهبية والقبلية في شمال البلاد، على حد ما يراه أكثر المراقبين السياسيين. ويبرهن على هذه المخاطر حجم المعارك الضارية التي تفجرت في الأسابيع الماضية في أكثر من منطقة بين جماعة الحوثيين الشيعية ومسلحي القبائل الموالين لحزب التجمع اليمني للإصلاح (الإخوان المسلمون) والجماعات السنية الأخرى، والتي وصلت إلى مشارف العاصمة صنعاء في مديرية أرحب. وكانت قضية صعدة أبرز ملفات مؤتمر الحوار الوطني بعد «القضية الجنوبية» وشارك الحوثيون فيه ب35 ممثلاً، وتوصل المتحاورون إلى مجموعة مطولة من الحلول لهذه القضية، أهمها ضمان حرية المعتقد والمذهب، وتعويض قتلى الجماعة وجرحاها الذين سقطوا في مواجهات مع النظام بين عامي 2004-2010، وإعادة إعمار المحافظة، مقابل تسليم الأسلحة الثقيلة والمتوسطة للدولة، وكذا استيعاب مقاتلي الجماعة في صفوف الجيش والأمن. غير أن هذه الحلول ظلت مجرد حبر على ورق بالنسبة لأطراف الصراع المتناحرة، يستوي في ذلك جماعة الحوثي بتحالفاتها الجديدة وخصومها القبليين والمذهبين، وهو ما جعل هذه القوى تستمر في الاحتكام إلى لغة السلاح لتصفية حساباتها السابقة وتحقيق واقع جديد على الأرض مستغلةً عجز الدولة التي انصرفت إلى محاولة الحفاظ على تماسك العملية الانتقالية الهشة، قدر الإمكان. مسارات متزامنة للمد الحوثي منذ نجاح الحركة الاحتجاجية التي اندلعت مطلع 2011 في إجبار الرئيس السابق علي عبدالله صالح على التوقيع مع معارضيه على اتفاق لنقل السلطة كانت اقترحته دول الخليج العربي برعاية سعودية وتأييد دولي، حرصت جماعة الحوثي التي تسيطر على محافظة صعدة في الشمال على اعتماد أكثر من مسار في تعاطيها مع التطورات التي عصفت بالبلاد. ولاحظ المراقبون أن الجماعة دفعت منذ البداية أنصارها في عموم المدن للانخراط في الاحتجاجات السلمية المطالبة بإسقاط النظام، ثم شاركت لاحقاً في العملية السياسية عبر المساهمة في التحضير للحوار والمشاركة الإيجابية في أعماله، وبموازاة ذلك استمر مقاتلوها في التوسع على الأرض في المحافظات المجاورة مستغلين حالة الصخب الثوري والانقسامات السياسية وانفلات الأمن وهشاشة الدولة وحياد الجيش. وخاض الحوثيون على امتداد السنوات الثلاث الأخيرة مواجهات متقطعة مع رجال القبائل في محافظات حجة والجوف وعمران وانتهت في أغلبها بموجب هدنة تبرمها وساطة حكومية، كما أخذت في صعدة تصطدم بشكل متكرر بإحدى الجماعات السلفية الصغيرة التي تقطن بلدة دماج حيث تدير معهداً للتعليم الديني منذ ثمانينات القرن الماضي يؤمه مئات الطلاب الأجانب واليمنيين، وآلت مسؤوليته بعد رحيل مؤسسه الشيخ مقبل الوادعي إلى تلميذه الشيخ يحيى الحجوري. وضيقت الجماعة المتهمة بموالاة المشروع الإيراني في المنطقة وتلقي الدعم بالمال والسلاح الخناق على سلفيي دماج في 2013 أكثر من أي وقت، متهمة إياهم بإيواء مسلحين أجانب وصفتهم ب «التكفيريين» كاشفة بذلك عن رغبتها الصريحة للتخلص من آخر معقل لمناوئيها المذهبيين في صعدة. وأدت رغبتها هذه في آخر تشرين الأول (أكتوبر) الماضي إلى نشوب أشرس المواجهات التي سقط فيها مئات القتلى والجرحى قبل أن تندلع المواجهات على جبهات أخرى محيطة بصعدة إثر توافد مئات السلفيين إليها من شتى المناطق اليمنية «نصرة منهم لأهالي دماج» على حد ما وصفوه. وآل الصراع بعد أكثر من مئة يوم من القتال وبعد جولات ماراثونية من الوساطات الحكومية إلى تحقق حلم الجماعة في ظل هدنة اختار بموجبها الشيخ الحجوري نزولاً عند مقترح للرئيس هادي مغادرة دماج إلى صنعاء أملاً في موطئ قدم توفره الحكومة للآلاف من أتباعه النازحين، في مقابل تعهد الحوثيين بعدم المساس بمن يؤثر البقاء من سكان البلدة الأصليين. انكسار آل الأحمر وفي غضون ذلك تصدى أنجال الزعيم الراحل لقبيلة حاشد الشيخ عبدالله بن حسين الأحمر لقيادة أهم الجبهات ضد الحوثيين معتمدين على مسلحي القبيلة المنقسمة في ولاءاتها السياسية والحزبية والمذهبية، وتحديداً على جناحها الموالي لجماعة «الإخوان المسلمين»، غير أن المغامرة انتهت بكسر شوكتهم وسيطرة الحوثيين على أهم معاقلهم في عمران وتفجير قصر والدهم في منطقة الخمري. ويرى مراقبون للأحداث «أن آل الأحمر أرادوا- وهم أصحاب النفوذ السياسي والمالي الواسع في عهد صالح والذي ورثوه عن والدهم- أن يثبتوا في هذه المعارك أنهم الطرف الأقوى المنوط به تقرير وجه الدولة القادمة باعتبارهم صناع حكامها التاريخيين، وهو ما جعلهم يتلبسون مجدداً شعار «الدفاع عن الجمهورية» ضد ما اعتبروه مشروعاً حوثياً لإعادة حكمة الأئمة». وإلى جانب آل الأحمر يرى أنصارهم النافذون قبلياً وعسكرياً في شمال البلاد بخاصة أولئك الذين انشقوا عن نظام صالح وأيدوا سقوطه «أنهم إزاء معركة مصيرية للإبقاء على نفوذهم في الدولة الجديدة وهو ما يقترن تحقيقه بمدى قدرتهم على مقارعة المد الحوثي الذي يخشون أنه يريد التهام الجميع». ولوحظ أن هذه القوى جندت مع احتدام الصراع آلتها الإعلامية وجهود ناشطيها للضغط على الرئيس هادي لإدخال الدولة طرفاً في المواجهة محذرين من مخطط حوثي للزحف إلى صنعاء، بخاصة أن القتال امتد إلى مشارفها في منطقة أرحب القريبة من المطار الدولي، وهو ما نفاه القادة الحوثيون الذين كانوا أبرموا صلحاً مع زعماء بارزين في قبيلة حاشد برعاية لجنة وساطة حكومية كفل لهم حرية التنقل والحركة في محافظة عمران. واعتبر آل الأحمر وحلفائهم هذا الصلح الذي لم يشملهم خيانة من الداخل وحملوا مسؤولية خسارتهم معاقلهم أطرافاً من قبليتهم تحالفت مع الحوثيين بإيعاز من الرئيس السابق الذي يتهمونه بأنه يريد الانتقام منهم جراء دعمهم للانتفاضة التي نحته عن السلطة. وأدلى مستشار الرئيس هادي، فارس السقاف، بتصريحات اعتبر فيها هذه التحذيرات التي أطلقها خصوم الحوثيين مجرد «تهويل لاستدراج الدولة إلى الصراع وجعلها طرفاً فيه» في وقت أكد الحوثيون أن أبناء قبيلة حاشد هم من ثاروا على ظلم آل الأحمر في المنطقة، وأن دور الجماعة اقتصر على المساندة والتأييد. وتؤكد مصادر مقربة من هادي أنه رفض الانسياق لضغوط خصوم الحوثيين القبليين والمذهبيين للزج بالجيش في مواجهة غير محسوبة العواقب، ولأنه يرى- وفقاً لهذه المصادر- «أن الأولوية هي لإقامة مؤسسات الدولة الاتحادية الجديدة وتنفيذ عملية الانتقال السياسي والبدء في تطبيق مخرجات الحوار النظرية على أرض الواقع بتعاون جميع الأطراف». إلا أن المخاوف تتزايد من عدم استشعار القوى المتصارعة لهذه الأولويات الوطنية على لائحة هادي والإقدام على تفجير الأوضاع في أي لحظة، بخاصة بعدما تواتر من أخبار عن احتشاد جديد يعد له آل الأحمر للرد على الحوثيين واسترداد مناطق نفوذهم. رؤى متباينة وتحذيرات ويؤكد عضو البرلمان اليمني محسن البحر في حديث ل «الحياة» «أن استمرار هذا الصراع في شمال البلاد يحمل أبعاداً كارثية على الصعيد الوطني «ويهدد- على حد قوله- ب «شريعة الغاب» في علاقة الأقاليم ببعضها في ظل غياب الدولة القوية التي تتولى توزيع الثروات السيادية وبسط سلطة الأنظمة والقوانين». ويعيد البرلماني البحر بعضاً من أسباب الصراع بين آل الأحمر والحوثيين إلى «انصراف حكومة الوفاق عن تثبيت الأمن وانشغالها بترتيب أوضاع قياداتها وكوادرها وإحلالهم مكان من يسمونهم ب «النظام السابق» وكيف أدى ذلك على سبيل المثال، إلى تغاضيها عما تعرض له سلفيو دماج من «حصار وتهجير» على حد تعبيره، على رغم وجود» العديد من الألوية العسكرية في صعدة وعمران». ويرى الصحافي اليمني المقيم في الولاياتالمتحدة محمد قاسم الجرموزي «أن صراع أولاد الأحمر مع الحوثيين لا يمت إلى الحكمة والعقل والمصلحة الوطنية بشيء»، معتقداً بوجود طرف ثالث نجح -على حد قوله- في «تأجيج الفتنة». ويضيف في حديث خص به «الحياة»: «أن عملية تكريس التمزق المذهبي بين سني وشيعي نجحت إلى حد ما في إذكاء العداء نتيجة اتساع رقعة الأمية في المجتمع اليمني والتي تحمل الكثير من البسطاء على الانضمام لجبهة القتال من دون معرفة أو دراية وإنما تلبية لطلب السيد أو الشيخ». مؤكداً «أن هذه المواجهات الدامية ستؤثر سلباً في مستقبل التنمية والاستقرار في اليمن وقد تدخله في دوامة يصعب الخروج منها». وللكاتب والأديب اليمني عبد الرحمن مراد في قراءته للصراع وجهة أخرى، ويقول ل «الحياة»: «إن ما حدث في حاشد ليس معجزة بل هو ظاهرة طبيعية لحركة المجتمع، فالثورات، بحسب تعبيره، «تحدث هزات اجتماعية تحررية من هيمنة الماضي ورموزه وتعيد الفرز والتمايز وثمة قوى جديدة سوف تبزغ من تحت دخان الأحداث» في إشارة إلى الحوثيين. ويضيف: «سقطت رموز الماضي في قبيلة حاشد الآن، لكن حاشد باقية لأنها ذات عمق تاريخي وهي جزء من المكون الوطني الكبير كما أن ما حدث ستكون له تداعياته المختلفة وسوف نشهد خلال الزمن المطل من رحم الغيب حركات مطلبية تكشف غلالة ما كان يحدث من مظالم من قبل أسرة بيت الأحمر». ويؤكد مراد أن أنجال الأحمر «ثاروا على أنفسهم وعليهم أن يتقبلوا نتائج الثورة وإفرازاتها وتمايزاتها». في إشارة إلى أنهم كانوا جزءاً من نظام صالح الذي دعموا الانتفاضة ضده. وفي حين تتهم جماعة الحوثي بأنها تحاول التنصل من مخرجات الحوار والتمادي في استخدام القوة لتوسيع مناطق نفوذها في سياق مخططها التدريجي الرامي لإقامة دولة مذهبية شيعية في شمال البلاد، يعتقد الناشط الحقوقي ومدير مكتب منظمة الكرامة الدولية في اليمن محمد الأحمدي «أن هناك اتفاقاً محلياً ودولياً يقضي بتخصيص مناطق الصراع القائمة في شمال اليمن للحوثيين في سياق تقسيم البلاد إلى أقاليم». ويجزم الأحمدي في حديثه إلى «الحياة» أن هذا الإقليم ويشمل (صعدة وعمران وصنعاء وذمار) «سيسقط في يد الحوثيين بأي ثمن لكن القصة لن تنتهي هنا ولكنها ستبدأ لحظة سقوط صنعاء-على حد تعبيره- إذ لن يبقى هناك أي تعايش سلمي ولن يتفرغ اليمنيون لبناء دولة ولن يكون هناك أي فرصة لعمل مدني». ويعتقد عضو البرلمان محسن البحر «أن الحل يكمن في استعادة قوة الدولة ومصادرة الأسلحة الثقيلة والمتوسطة التي بحوزة الجماعات المسلحة والأحزاب». إلا أن سياسيين تحدثوا ل «الحياة» يستبعدون أن تسلم جماعة الحوثي أسلحتها في الوقت الراهن أو تقبل بإخضاع مناطق نفوذها لسيطرة الدولة، كما يستبعدون أن تخف وطأة الاستقطابات المذهبية والقبلية في شمال اليمن، متوقعين مزيداً من الاقتتال وأعمال العنف في ظل عدم إيمان المتصارعين بمبدأ التعايش الذي أقره الحوار وفي ظل تراخي قبضة الدولة.