في ظل زحمة التقارير السياسية والنشرات الموجزة والمفصلة المرافقة لانعقاد جنيف 2، أتعبني الجلوس الطويل أمام شاشة التلفاز، واستعراض الوجوه المتتالية التي لا يتعب أصحابها من التصريحات المختلفة، فقررت إراحة نفسي قليلاً من هذا المستنقع السياسي، وخطر ببالي استرجاع طفولتي، فجلست أمام موقع اليوتيوب، وكتبتُ اسم شخصيتي الالكرتونية المفضلة روبن هود، ثم ضغطت زر البحث ليظهر لي الموقع مقاطع عدة تحوي حلقات من المسلسل الشهير. لكن ما لفت نظري وصعقني للحظات ذلك المقطع الذي رأيته في إحد نتائج البحث، والذي يظهر فيه المدعو زهران علوش، يقف بين ثلة من مقاتلي «جيش الإسلام» محاضراً فيهم ومشجعاً لهم على القيام ب «واجبهم الجهادي» بنصرة اهاليهم في مدينة دوما، وواعداً إياهم بجنّات النعيم. لا يتجاوز الأمر خللاً في الموقع الإلكتروني، أو فهماً خاطئاً لموضوع البحث. ولو كنت شبيحاً لقلت إن موقع اليوتيوب يقوده أصوليون وسلفيون، وأن ملاّكه تتلمذوا في الجامعة نفسها حيث درس زهران علوش الفقه الإسلامي. إلا أن الموضوع يستحق الحديث، والصدفة تلك تستحق التمعن، وتضعنا أمام مقارنة غير عادلة بين شخصيتين لا بد من الحديث عن بعض جوانبهما. فروبن هود هو ذلك الشاب الخارج على القانون، والذي على رغم انحداره من أسرة نبيلة في مدينة نوتنغهام الانكليزية، اتخذ من غابات شيرود موطناً له، وأخذ على عاتقه حماية أبناء مدينته من ظلم حاكم نوتنغهام، الأمير جون، وحاشيته، وعمل مع رفاقه على الهجوم المتكرر على مستودعات الأمير جون وسلبها وتوزيع محتوياتها على الجياع. أما روبن هود السوري، بحسب معايير اليوتيوب، أو الشيخ «محمد زهران عبدالله علوش» كما يحلو لأنصاره مناداته، وهو الذي درس الشريعة في جامعة دمشق، فسلك خطاً مغايراً لسلفه الإنكليزي، وعمل بأسلوبٍ مختلف على مساعدة أبناء مدينته دوما وما حولها من مدن الغوطة الشرقية الخاضعة لسلطة جيش الإسلام، فكانت خطاباته التي هي سلاحه الذي حارب به أبناء مدينة دوما قبل أن يحارب الأسد. أهالي دوما الذين كانوا دائماً من أوائل مشكلي الهيئات المدنية والمجالس المحلية التي تهدف إلى تضميد جراحهم، وإعادة الحد الأدنى من مقومات الحياة للمدينة التي قطعت الحرب أوصالها، وجدوا أنفسهم اليوم تحت رحمة علوش وجيشه الذي زاد الخناق على المدينة وحارب نشاطاتها المدنية، حيث عمل على حل مجلسها المدني واستبداله بمجلس شورى تابع لما يسمى «مجلس المجاهدين» الذي شكله علوش بنفسه قبل أن ينقلب عليه، ثم أنهى مسلسل أعماله بتنصيب نفسه حامياً على مستودعات الوكالات والهيئات الإغاثية العاملة في المدينة، ومنح نفسه حرية توزيع الإغاثات والمؤونة على الأهالي، ما زاد في معاناتهم، فتطور الامر إلى تظاهرات عدة تظاهروها أمام مقر مجلس الشورى من دون أي رد فعل أو أي تصرف مسؤول من المجلس، ما يعكس الارتباط الوثيق في القرارات بين علوش ومجلس الشورى. وهذا إنما تفاقم مؤدياً إلى استياءٍ كبير من الأهالي الذين توجهوا لكسر هذا الحصار واقتحموا مستودعات وكالة «عدالة» الإغاثية التي يحتلها علوش وأعوانه، لتنكسر أسطورة زهران علوش المخلّص والمدافع عن المظلومين كما تم الترويج له منذ ظهوره. الحادثة تضعنا أمام حقيقة مهمة تكشف أمامنا عري هؤلاء المستفيدين من حربهم ضد النظام السوري وعلى رأسهم علوش ورجاله. وهذه الحقيقة هي ادعاء النزاهة ونصرة المظلومين التي تستّر خلفها علوش طويلاً. فمنذ إعلانه معركة «القصاص العادل» ضد قوات النظام في الغوطة الشرقية، استطاع علوش الذي سبق أن سجن في صيدنايا بتهمة التحريض الديني والدعوات الأصولية، كسب القاعدة الشعبية الأكبر بين أهالي الغوطة الشرقية والذين وجدوا فيه الشخص الذي سينقذهم من تجاوزات القوات النظامية وجرائم ضباط الجيش، بخاصة في المدن التي ما زالت ساحة للنزاع والاشتباكات اليومية بين الطرفين، وهذا دفع بالكثير من الأهالي للانضمام إلى جيش الإسلام، خصوصاً بعد استغلال علوش لموضوع اعتقاله السابق في سجون الأسد، وأيضاً بعد موجة الخطابات والدعوات الجهادية التي أعلنها بنفسه بدءاً من جوامع مدينة دوما وصولاً إلى مدن عدرا وميدَعا ومروراً بتل كردي والريحان. إلا ان المخلص اليوم أصبح لدى الكثيرين من سكان الغوطة كابوساً آخر يضاف إلى الكابوس الأسدي، خصوصاً بعدما تشبّه هو وجيشه بالكثير من صفات النظام وممارساته، من التجويع إلى الحصار والاعتقالات التي مورست على الكثيرين من أصحاب الرأي والإعلاميين والنشطاء الحقوقيين في الغوطة الشرقية. ولعل أشهر تلك الأعمال وليس آخرها تغييب أعضاء مكتب توثيق الانتهاكات العامل في مدينة دوما وفقاً للمسؤولية التي وجهها معارضون إليه، وهو عمل مدروس جيداً وموجّه والمستهدف منه شخصيات كرزان زيتونة وسميرة الخليل ورفاقهما، وهم لطالما أرّقوا علوش في فضح الانتهاكات المستمرة في سورية. البحث عن صلة ربط بين روبن هود مدينة نوتنغهام الإنكليزية وروبن هود مدينة دوما السورية، أمر يحتاج إلى مركز أبحاث كامل في أخلاقيات الثورة والثوار والمدافعين عن المظلومين وحقوقهم. وأكاد أجزم ان علوش كان سيختطف أعضاء هذا المركز لو وجدوا، وسيلحقهم بالعديد من ضحاياه السابقين. «الشيخ روبن هود الدوماني» اليوم هو نموذج لكثيرين من حمَلة راية الثورة حالياً الذين سرقوا الثورة من أصحابها الحقيقيين، وعملوا على كم أفواه كل المعارضين الذين لا يتفقون مع آرائهم. ووجود نموذج زهران علوش في موقع المعارض للنظام المستبد خطأ مفصلي في مسار الثورة، والخطأ الأكبر سيكون إتاحة مجالات أكثر لمثل هذه النماذج كي تستمر في تحقيقها مآرب واهدافاً تتقاطع في مجملها مع أهداف نظام من المفترض أنها تحاربه. لقد تركتُ أخطاء اليوتيوب في البحث، خشية أن أقوم مثلاً بالبحث عن إرنستو تشي غيفارا، فيظهر لي أبو محمد الجولاني، وعدت إلى جنيف 2 مردداً: «رحم الله روبن هود»... * كاتب سوري