تبدو الكاتبة والأكاديمية المصرية رضوى عاشور(26 أيار - مايو 1946 - 1 كانون الأول - ديسمبر 2014)، مشغولة بالنهايات، بتشكل الحلم المقاوم عبر أزمنة السقوط المخزية، هكذا كانت كتابتها حين تنحو صوب التاريخ، فتعيد صوغه على نحو جديد، مختلف ومغاير، لكنه يبقى مسكوناً بحس وثائقي بارز، ورغبة عارمة في تمجيد لحظاتنا العربية المأسوية. مناضلة مرتحلة في الزمان والمكان السرديين، تكتب ثلاثية «غرناطة» عن المجد الغابر، والأحلام المجهضة، والعيش الذي بات قاسياً في لحظة يصبح فيها الرحيل عن الوطن رحيلاً عن الحياة ذاتها، ويصبح الخروج منه مرادفاً للموت، والهزيمة معنى حقيقياً للانكسار. وفي «الطنطورية» تتسرّب رهانات المقاومة عبر تعرية السقوط العربي بامتداداته الزمانية والمكانية في القرن العشرين، بدءاً من حرب 1948، ووصولاً إلى العام 2000، وما بينهما تتشكل مساحات متداخلة من البهجة والعتامة، ولحظات من الهزائم المتتالية، لكن ثمة روحاً خفية دوماً تحمل هذا الهم العام، تنشغل بناسها بحق، فتعيد الاعتبار إلى معنى الوجود ذاته بوصفه مرادفاً للحرية، وملازماً لها في آن. وما بين أسئلة الهزائم العربية، وتمجيد معنى النضال والمقاومة تخرج الكتابة لدى رضوى عاشور مسكونة بحمولات معرفية ودلالية متنوعة، تستحضر عبرها التاريخ البعيد؛ سقوط غرناطة، أو القريب؛ سقوط فلسطين، وعبر حركة مختلفة للسرد تستحضر فيها كل آليات الذاكرة المنهكة بمحن وآلام تتشكل نصوصها الإبداعية ذات الطابع التاريخي الأخاذ، والذي يتحول فيه التاريخ إلى مجلى لسياق عربي محتدم ومأزوم. لم يكن أقسى على الروح من أن تقتلع من أرضها اقتلاعاً، وما بين رحيل قسري من الأندلس قديماً، واغتصاب للأرض العربية حديثاً، تدور حركة التاريخ والنص معاً في مخيلة رضوى عاشور ونصها العابر للأيديولوجيا، إذ إنه يمنحها حرية العيش مطلقة السراح، فتنبئ عنها المواقف السردية أكثر مما تبرزها المقولات الفجّة المباشرة. وعلى رغم كون النتاج الأدبي اللافت في صنيع رضوى عاشور تبلور في النصوص ذات النفس التاريخي، غير أن التاريخ هنا لم يكن غاية في حد ذاته، بل كان وسيلة لفهم عالم متحول باستمرار، فكان بمثابة الأداة لفهم الواقع، أو على الأقل قراءة معطياته من زاوية مخلتفة. تنطلق رضوى عاشور دوماً من واقع حي، ملغوم دوماً، فتمنحه حساً جديداً، ف «الطنطورية» مثلاً نسبة إلى طنطورة، وهي قرية فلسطينية حقيقية تقع إلى الجنوب من مدينة حيفا، وقد تعرضت شأن بلدان أخرى لجرائم العصابات الصهيونية، ومجازرها البشعة، وكان سقوطها في العام 1948، لكن الكاتبة تمنح المكان أبعاداً أسطورية وتخييلية جديدة، فيتواشج الحقيقي بالمتخيّل، ويتزاوج التاريخي مع الواقعي. وعبر ذلك تتخلّق تلك الصيغة الجمالية التي انتخبتها الكاتبة وأحالتها إلى إطار يؤسس لعالم روائي مختلف، تلعب فيه اللغة أيضاً دوراً مهماً سواء عبر تفعيل ما يسمى اللغات الاجتماعية للشخوص، أو عبر الاستخدام الشعري للغة في مواضع مختلفة، بما يتناسب مع أجواء عارمة من الألم والأسى الشفيف. وحين عثرت الأكاديمية المرموقة على منطقتها الخاصة في الكتابة، كانت قبلها قد اختارت منطقها الجمالي المحدد، فلا نص ينشأ في الفراغ، بل دوماً موصول بسياقات تاريخية واجتماعية، تحدد تحولات السياسي والثقافي وتتجادل معها في آن، ومن هنا كانت حتى نصوصها القصصية، من قبيل: «رأيت النخل»، و»تقارير السيدة راء»، معنية بتواشج الذاتي والموضوعي وامتزاجهما في خلق نص يضع قدماً في المتخيل السردي وأخرى في الواقع، ويعج بالسخرية والمرارة في آن، وبينهما عشرات الأسئلة عن بنى سياسية/ ثقافية خربة ومهترئة، أضحت خارج اللحظة والتاريخ، لكن ثمة حلماً يتبدى دوماً، ربما يكون في نهاية نفق معتم، أو حبلاً من الأسرار المشدودة لسيرة ذاتية تأتي إلينا من بعيد، فتكتب «الرحلة: أيام طالبة مصرية في أميركا» عام 1983، أو سيدة نبيلة عركتها التجربة الحياتية والإبداعية في عملها الأخير اللافت؛ «أثقل من رضوى: مقاطع من سيرة ذاتية»، والمنشور العام 2013، غير أنه لم يكن ثمة وجه وحيد لرضوى، تلقاه في نصوصها المشغولة ببشر منهكين، يحيون على حافة أزمنة تنقضي، وأخرى تقدم بقسوتها المفرطة، بل كانت ثمة وجوه عدة، في النص كما في الحياة، ووجه الأديبة البارزة كان وجهاً مركزياً من وجوه رضوى عاشور، يجاوره وجه الناقدة التي بدت خطوتها الأولى والمركزية حاوية همنا العام، فكانت دراستها عن المبدع المناضل غسان كنفاني عام 1977 «الطريق إلى الخيمة الأخرى». أما الوجه الذي لن ينساه تاريخنا الثقافي المصري والعربي، فيبدو عبر الالتحام بالجماهير والدفاع عنها، وعن ثقافتها الوطنية، والقومية. من هنا كانت مشاركاتها اللافتة في «لجنة الدفاع عن الثقافة القومية»، و»اللجنة الوطنية لمقاومة الصهيونية» في الجامعات المصرية، ومجموعة «9 مارس لاستقلال الجامعة المصرية». وهذا الوجه النضالي بدا حاضراً بقوة في الجامعة، عبر تعاطٍ مختلف مع راهنها التعس، فبدت رضوى عاشور أستاذة الأدب الإنكليزي في جامعة عين شمس، مشغولة دوماً باستقلالية الجامعة، هذا المطلب الحتمي الذي نادى به كل الأساتذة في حركة «9 مارس لاستقلال الجامعة المصرية». مثَّلت رضوى عاشور إذن تعبيراً حقيقياً عن فكرة المثقف العضوي، وفق أطروحة أنطونيو غرامشي، وبدا انحيازها غير المشروط إلى ناسها، مهاداً فكرياً لانحياز جمالي عبر الكتابة السردية لبشر على الحافة دائماً، أبناء للحظات مأزومة وغارقة في تناقضاتها الفادحة، لكن هذا الارتباك الذي يحياه شخوص رضوى المختلفون في نصوصها، نحيل مثلاً إلى شخوص من قبيل «أبو جعفر، سعد، حسن»، في الثلاثية، لنجد كلاً منهم يحيا صراعاً ما بين الإقدام والإحجام، حالة توزّع مدهشة تعد نتاجاً لعالم أضحى فيه الإخفاق بنية مهيمنة، تعد بمثابة المستوى المسيطر على حركة الشخوص والفعل السردي في آن، وتبقى «مريمة» سراً للمعنى النبيل للمقاومة، ومن بعدها حفيدها «علي»، وهناك «سليمة» الشخصية الثرية بمأسوية المصير ورهافة الحضور داخل الرواية. وبعد... «أن تحكي شيئاً معناه أن تتوافر على شيء خاص تقوله»، هكذا علمنا تيودور أدورنو، وهكذا أيضاً امتلكت رضوى عاشور ما تقوله لنا في نصوصها السرديّة، وما تحكيه عنا في آن، عن مآسينا الجمعية، وذاكرتنا المثقوبة بفعل قرون من القمع والاستبداد السياسي والديني، والأدهى مراكز استعمارية جديدة تتحالف مع قوى الرجعية والاستبداد في عالمنا العربي للتكريس لتبعية سياسية/ ذهنية لطالما سعت إلى الخلاص منها، ومن أسرها الباطش.