تبذل الولاياتالمتحدة، في ظل الولاية الثانية والأخيرة للرئيس باراك أباوما، وعن طريق وزير خارجيته جون كيري، جهوداً كبيرة ولافتة لإعادة المفاوضات الفلسطينية الإسرائيلية إلى سكتها القديمة ومسارها الأول، بعد انقطاع سنوات، وذلك في ظل المواقف الإسرائيلية اليمينية المتشددة، التي يبديها رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتانياهو، وحلفاؤه الكبار المتطرفون، ومنهم وزير خارجيته أفيغدور ليبرمان، الذي يرفض مبدأ التفاوض، ولا يعترف بوجود شريك فلسطيني، ولا يقر بأي تفاهمات فلسطينية إسرائيلية سبقت، ويريد أن يرسي قواعد جديدة للمفاوضات، أساسها إنكار الحقوق الفلسطينية، ورفض تقديم أي تنازلات إسرائيلية، والمباشرة في مسار ترحيل ونقل مئات آلاف الفلسطينيين من مناطقهم، بعد إقرار يهودية الدولة، واعتراف الفلسطينيين والعالم العربي بها. وعلى رغم الصلف والوضوح الإسرائيليين في المواقف والرؤى، والإصرار على مواكبة المفاوضات باستمرار سياسية الاستيطان بقوة وشراسة، فهل ينجح الوزير كيري في فرض رؤيته لحل القضية الفلسطينية وإنهاء الصراع العربي الإسرائيلي، مع العلم أن رؤيته هي إسرائيلية محضة، وإن بدت أنها غير ذلك، أو أنها دون المستوى والطموح الإسرائيلي. إذ إن الإدارة الأميركية لم تمارس أي ضغوط تذكر على الجانب الإسرائيلي، ولم تطالبه بالالتزام بالشروط الدولية، أو النزول عند الرغبات الأميركية، بالقدر الذي مارست فيه ضغوطاً حقيقية وكبيرة على السلطة الفلسطينية، والحكومة الأردنية، وربما على أطراف عربية أخرى، للقبول بحلول الفرصة الأخيرة، والاقتناع بالعطايا الإسرائيلية، بل والاستجابة إلى بعض المطالب الإسرائيلية التي باتت الإدارة الأميركية تعتقد بأنها مطالب محقة ومشروعة، وشروط منصفة ومعقولة، وأنه يمكن الدول العربية أن تعترف بها كحق للإسرائيليين، كونها أحد مكتسبات القوة، فضلاً عن أنها استعادة لحق قديم، واعتراف بواقع راهن. يدور جدل كبير حول حقيقة المفاوضات الجارية وجديتها، في ظل تنامي معارضة فلسطينية قوية في أوساط تيار فريق السلام، وهل أن هذه المرحلة التي أُعلن عنها أخيراً هي المرحلة الأخيرة فعلاً؟ وهل أن كيري نجح فعلاً في تمرير خطته وتثبيت الحل الذي ارتضاه مع الإسرائيليين وسهر معهم على فرضه؟ أم أنها فقط مرحلة عابرة ككل المراحل التي سبقت، وأنها ليست إلا لذر الرماد في العيون، وإيهام الفلسطينيين والعرب بجدية الولاياتالمتحدة، لكن حقيقتها أنها تأتي تمريراً للوقت، لتمنح الإسرائيليين فرصة أكبر لتنفيذ المزيد من المخططات والبرامج، بعيداً من التأثيرات الإعلامية والمواقف الدولية، إذ هذا ما عودتنا عليه الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة، التي تأتي متوافقة ومنسجمة مع توجهات الإدارات الأميركية. قد تكون التفاهمات والمفاوضات السرية التي لا نعرف عن حقيقتها شيئاً، هي الأدق والأقرب إلى المنطق والعقل، إذ إن محددات جدية الاتفاق أو عدمه هي إسرائيلية فقط، وكلما بدا أن الاتفاق ينسجم مع المصالح الإسرائيلية ويحقق رغباتهم وينزل عند شروطهم، فسيكون جدياً، أما إذا كان غير ذلك، وبدا أنه يشكل خطراً على مستقبلهم، ويجبرهم على تقديم تنازلات لا يرغبون فيها، فإنه لن يكون إلا سراباً ووهماً، يستخفون به، ويكسبون به المزيد من الوقت، ويمررون من خلاله ما يشاؤون. مخطئ من يظن أن المفاوضات الفلسطينية الإسرائيلية التي تجري برعاية وزير الخارجية الأميركية هي مفاوضات علنية فقط، وأنها تنطلق في وجوده وعند زيارته المنطقة، وتتجمد وتتوقف عند غيابه، لتعود وتستأنف من جديد عند وصوله. بل إن هناك فرقاً مختصة من كل الأطراف المعنية تواظب على الاجتماعات، وتلتزم باللقاءات السرية، في داخل فلسطينالمحتلة وخارجها، وهي التي تشرف على المفاوضات الحقيقية، وتتابع التفاصيل، وتنظر في دقائق المسائل، وتترك الاحتفال بالوصول إلى النتائج، والإعلان عن الشكل البروتوكولي للتفاوض للوزير الأميركي، الذي يريد أن يظهر صعوبة المفاوضات، وأن الأطراف كلها تبذل جهوداً حقيقية، وتقدم تنازلات مشتركة، ليظهر الطرف الفلسطيني منتصراً، وأنه استطاع أن ينتزع تنازلات حقيقية من الجانب الإسرائيلي، ليوهموا الشارع الفلسطيني والعربي بصلابة المفاوض الفلسطيني، وأنه كان ثابتاً وصلباً، ولم يقدم تنازلات مجانية، ولم يقبل بالعروض الإسرائيلية، وأنه يستحق كل تقدير من شعبه لصموده وثباته، وأن هذا الاتفاق الذي تم التوصل إليه هو الأفضل والأنسب، وهو مكسب وانتصار، ولا يتوقع أن يشهد المستقبل أفضل منه. إلا أن الجوانب الحقيقية من المفاوضات تجري بصورة سرية جداً، نظراً إلى خطورتها وأهميتها، والخشية في حال ظهورها وإعلانها من نشوء معارضات قوية لها، خصوصاً أن هذا الاتفاق يرجى منه أن يكون نهائياً وحاسماً لكل القضايا العالقة محل الاختلاف والتنازع، ولهذا فإن بعض المعلومات المسربة عن المفاوضات قد لا تكون بالضرورة صحيحة، فهي قد تكون تخمينات وتوقعات لا أكثر، كما قد تكون معلومات مسربة عمداً، بقصد قراءة الرأي العام، ومعرفة اتجاهات التفكير لجهة المعارضة أو القبول الشعبي والحزبي بها. الإسرائيليون يعتقدون بأنهم الأقوى والأكثر ثباتاً، وأنهم في أفضل حالاتهم، وأقوى مراحلهم ، وأنه لا توجد قوة عربية قادرة على تهديدهم، أو فرض الرأي عليهم، أو إكراههم على تقديم تنازلات، أو القبول بحلول لا يؤمنون بها، فالعرب اليوم هم في أضعف حالاتهم وأسوأ مراحلهم، ولا يوجد ما يجمعهم، أو يوحد كلمتهم، والفلسطينيون هم جزء من هذا الواقع العربي الضعيف المهزوز، الذي لا يملك خيارات أخرى أو بدائل أفضل، وليس أمامه إلا القبول والتسليم بما يقبل به الجانب الإسرائيلي ويوافق عليه.