يعيد المسلك العنفي الذي تسير عليه حركة «الإخوان المسلمين» في مصر منذ ستة أشهر، النمط اياه الذي سلكته الجبهة الإسلامية للإنقاذ الجزائرية في تسعينات القرن العشرين، وهو مسلك يختصر بالإرهاب ضد المجتمع وقتل أكبر عدد من أبنائه المدنيين في الغالب، والعسكريين عندما يمكن ذلك. يتشابه التنظيمان في طريقة وصولهما الى الحكم وفي الخروج منه، كما يتشابهان في افتقارهما الى السياسة بمعناها الواسع وادارة شؤون البلد، كما يلتقيان في أيديولوجيا واحدة تنطلق من اعتبار أن المجتمع مازال يعيش في «مرحلة الجاهلية»، وان حمامات الدم ضد أبنائه ليست سوى «المطهر» الضروري للحكم الرشيد المنشود وفق نظريات أحد مفكري حركة «الإخوان المسلمين» سيد قطب. في 1992 نجحت الجبهة الإسلامية للإنقاذ في الجزائر في الوصول الى البرلمان وتأمين غلبة نيابية ضد الحزب الحاكم، جبهة التحرير الجزائرية. لم يتأخر قادة جبهة الإنقاذ منذ اليوم الأول لفوزهم في الاعلان عن برنامجهم السياسي الذي يرى في الديموقراطية وسيلة تمكنهم من الوصول الى الحكم فقط. بعد هذا الإنجاز لا مجال للسير في هذا المنحى الديموقراطي ومشاركة سائر القوى في الحكم، بل على العكس أظهر قادة الجبهة كل عداء لمفهوم الديموقراطية، واعلنوا صراحة نيتهم الانفراد في السلطة وإقامة حكم اسلامي وفق مفهومهم الضيق لهذا الحكم. أثارت تصريحاتهم مخاوف داخل الجيش والمجتمع، فمنع العسكريون الإسلاميين من استلام السلطة بما يمكن من تشبيه ما جرى بانقلاب عسكري على «الشرعية الجديدة». لم يتأخر الإسلاميون في إعلان الحرب على الدولة والمجتمع، وقادوا صراعاً عنيفاً امتد سنوات، أزهقت فيها أرواح أكثر من مئتي ألف جزائري معظمهم من المدنيين، ولحقت خسائر فادحة ببنى المجتمع واقتصاد الدولة، في عمليات نفذتها الجبهة ضد المجتمع الجزائري الذي يقيم في «العصر الجاهلي». وإلى الآن لا يزال النقاش مفتوحاً حول قرار العسكريتاريا آنذاك وما اذا كان الأفضل افساح المجال لجبهة الإنقاذ لتسلم السلطة وتطبيق برنامجها الذي سيفشل حتماً بعد فترة، وتخسر الجبهة الأكثرية النيابية في عملية ديموقراطية. بعد عشرين عاماً على تجربة الجزائر، نجح «الإخوان المسلمون» في مصر في تحقيق غلبة نيابية في انتخابات ديموقراطية لا يشك أحد في نزاهتها. أعطي «الإخوان» الفرصة التي حرم منها الجزائريون، ولكن على امتداد عام من السلطة، كان «الإخوان» يسجلون يوماً بعد يوم عجزهم وفشلهم في إدارة البلاد، ويرتكبون من الممارسات ما أثار مخاوف شرائح واسعة من المجتمع المصري، بما فيها قوى أيدتهم في الانتخابات النيابية والرئاسية. بعد عام على تجربة الحكم، انطلقت تظاهرات شعبية ضخمة تطالب برحيل الحكم الإخواني، مشابهة لتلك التي اندلعت لإنهاء حكم حسني مبارك. شكلت التظاهرات مناخاً مواتياً للعسكريتاريا المصرية لإنهاء حكم «الإخوان»، في ما يشبه انقلاباً عسكرياً على الشرعية القائمة. لم يسلّم «الاخوان» بما جرى، وبديلاً عن العودة الى ممارسة المعارضة السياسية، انتقلوا الى مسلك اقرب الى المسلك الجزائري. لا يمكن وصف ما يجري اليوم في مصر من عنف يقوده «الإخوان المسلمون» سوى بأنه عنف من أجل العنف، وقتل من أجل القتل، ومسلك لتدمير المجتمع والدولة، طالما ان الدولة لم تعد ملك «الإخوان». يتوهم «الإخوان» كثيراً بأن الإرهاب الذي أطلقوه من عقاله يمكنه ان يعيد إليهم السلطة. يعود جزء مهم من نجاح حركتهم في الانتخابات الى مسلك سياسي اعتمدوه منذ أيام حكم السادات عبر التخلي عن أسلوب القوة للوصول الى الحكم، والانخراط في مؤسسات المجتمع المدنية والسعي الى الهيمنة عليها، وتكوين قوى فعلية ضمن فئات الشعب المصري، ما جعلهم يفيدون من هذه السياسة على امتداد أربعة عقود، وتوظيفها في تأمين غلبة نيابية. لا يمكن وصف المسلك العنفي الراهن سوى بالانتحار الحتمي للإخوان اولاً، ولمجمل الوضع المصري ثانياً، إضافة الى ان استعادة «الإخوان» لتلك الشعبية التي تمتعوا بها ستكون مستحيلة. تثبت مشاريع التنظيمات الإسلامية كل يوم انها مشاريع بعيدة عن السياسة، بل ليس مبالغة القول انها مشاريع انتحارية بكل معنى الكلمة. ما يشهده العالم العربي من عنف تقوده هذه التنظيمات لأي طوائف ومذاهب انتمت، يؤكد ان السياسة التي مارسها بعض التنظيمات الاسلامية في شكل سلمي، لم تكن الا استثناء عاد يثبت القاعدة حول الأصل الايديولوجي المرشد لعنفها وإرهابها. واذا كانت حركة «النهضة» في تونس انحنت مؤخراً للعاصفة وقبلت بما كانت ترفضه من مشاركة في السلطة والاصرار على احتكارها، او في فرض دستور ينطلق من برنامجها الفكري والسياسي، فلا يعني ذلك تخلياً عن الأصل في برنامجها الإقصائي. ان هذا الانحناء تراه حركة «النهضة» موقتاً بانتظار ان تحين ظروف محلية وخارجية تسمح لها بالانقضاض مجدداً على السلطة، وإلغاء كل المكتسبات المتحققة ضد ما تراه حقاً لها.