مما لا شك فيه أن الشريعة عدلٌ كلها، ومن سعتها لا تكاد تغيب واقعة إلا جاءت بتنظيمها، سواءً بالرجوع إلى أصولها أم فروعها وما يمكن أن تستنبط به الأحكام منها من خلال الأدوات التي اهتم بها علماء أصول الفقه. ومن ذلك ما ورد فيها عن إثبات المدعي لدعواه، ولا أشمل في ذلك من قول ابن القيم رحمه الله أن البيّنة من أبان الحق، وهذا لا يحصر الإثبات في فعلٍ بعينه كالإقرار والكتابة والإشهاد وغيرها من وسائل الإثبات المعتبرة قضاءً بل يمتدّ إلى كل قرينة وحادثة تسهم في كشف الحقيقة. فحتى الإقرار وهو سيد الأدلة في نظر المتخصصين قد يسقط إذا شابه ما يبعث الريبة فيه، فالاعتراف على رغم كونه إقراراً من الشخص على نفسه قد يسقط إذا كان مظنة نيّة تحمل المقرّ لنتيجة فعله من دون إشراك غيره على رغم تحمّلهم للنتيجة ذاتها، وهذا وارد في القضاء الجنائي ويولده رغبة طرف في تحمّل الجرم وحده إذا اشترك معه قريب أو حبيب. وجاء في التاريخ ما يعضد هذا في قصة المرأتين اللتين اختصمتا لدى سليمان عليه السلام في وليد، فحين أراد شقه بينهما قضى به لمن أقرّت أنه ابن الأخرى واستدلّ على سقوط إقرارها بشفقتها على وليدها ورغبتها في دفع المضرة عنه. كذلك قد يسقط الإقرار إذا حفّه الإكراه والجبر، ولهذا كان الإقرار المعتبر هو ما يرد في مجلس القضاء الشرعي، وفي ذلك بوّب الفقهاء في كتبهم باب رد الإقرار بالقرينة القوية. أما في ما يتعلق بالإشهاد، فهو قد يسقط إذا كانت الشهادة تجلب للشاهد نفعاً أو تدفع عنه المضرّة، وقد تسقط إذا ُقدمت من الشخص في ظروفٍ كانت الشهادة صادره من محبٍ لحبيبه أو من كارهٍ على من يكره. وعنيت الشريعة بالكتابة لإثبات الحقوق، إذ جاءت أطول آية في كتاب الله في سورة البقرة وعُرفت بآية الدين لحث المتداينين على الإثبات بالكتابة وندبهم لكاتبٍ يكتب تفاصيله وظروفه بما يزيل عنه اللبس ويُشهد على ذلك. يأتي هذا كله عند ظن البعض أنه حال صنعه دليلاً لنفسه، فإن ذلك يحمي حقه ويجعله في حلّ من الإبطال والقدح، ولهذا يتعدى دور المستشار القانوني ليكون وقائياً يحمي مصالح عميله بضبط تعاملاته وفحص بيناته مسبقاً قبل حلول النزاع واللجوء للقضاء لحله وإنهائه. * محامٍ ومستشار قانوني. [email protected]