تخلصت ليبيا من استبداد معمر القذافي، لكنها مهددة بالعيش تحت استبداد السلاح. من يتابع اليوميات الليبية وما تشهده من اغتيالات وتفجيرات وتوترات جهوية وقبلية، يدرك ان هذا البلد في طريقه الى التحول مشكلة كبرى لأبنائه ولجيرانه ايضاً. تلتقي على ارض ليبيا حالياً مجموعة عوامل مقلقة: الفوضى المسلحة والانتماءات المتشددة وخلايا «القاعدة» وكل ذلك فوق بحر من النفط. هذا يقلق مصر والجزائر وتونس... ويقلق اوروبا والعالم. لماذا اندفعت ليبيا الى هذا المصير؟ عشية الذكرى الثالثة لثورة 17 شباط (فبراير) حملت هذا السؤال وغيره الى الدكتور محمود جبريل الذي تولى رئاسة «المكتب التنفيذي»، اي الحكومة ابان الثورة. طمأن وجود جبريل كثيراً من الليبيين والعرب وجهّات دولية. فالرجل معتدل وصاحب رؤية ويؤمن بليبيا ديموقراطية تتسع لكل مكوناتها. لم يأخذ هذا الحلم طريقه الى الترجمة ونجحت وطأة السلاح في حرف مسار الربيع الليبي. روى جبريل ل «الحياة» قصة الثورة الليبية وما اصابها بعد انتصارها، وهنا نص الحلقة الاولى: كيف كانت علاقتك بالنظام عشية اندلاع الثورة؟ - قدمتُ استقالتي من الحكومة الليبية في آذار (مارس) 2009 واشترط النظام لقبولها أن أوقّع عقداً استشارياً آتي بموجبه الى ليبيا أسبوعاً كل شهر، لمراجعة مخرجات ما كان يُعرف بالمجلس الوطني للتطوير الاقتصادي. وكان هذا الشرط الوحيد ليوافقوا على الاستقالة. الاستقالة في عُرف النظام القديم كانت تُعتبر خيانة أو رفضاً للنظام، وكان عليَّ ان أواقف على هذا المخرج. في كانون الأول (ديسمبر) 2010 بعثتُ برسالة الى البغدادي المحمودي، رئيس وزراء النظام السابق، أخبره فيها أن لا رغبة لي في تجديد هذا العقد الذي استمر من آذار 2009 وكان مفترضاً أن يتجدد سنوياً. قبل 10 شباط (فبراير) 2011 سافرتُ وسجلتُ مكتباً استشارياً في سنغافورة على أساس أن أبدأ النشاط الاستشاري مرة أخرى، باعتبار أن هذه مهنتي الأصلية التي زاولتها قبل 2007. وتوجهت من سنغافورة الى عُمان لأبدأ التسويق لهذا المكتب الجديد. وفيما أنا في عُمان قامت ثورة 17 شباط، فطبعاً قدَّر الله وما شاء فعل، فبدل الذهاب باتجاه العمل الخاص الاستشاري وجدت نفسي منغمساً من قمة رأسي الى أخمص قدميّ في هذا الأمر الجديد من دون أي تفكير وأية حسابات. هل فوجئت باندلاع الشرارة؟ - الإرهاصات كانت موجودة قبل أن أسافر، وأذكر أنه مرَّ علي الأخ علي العيساوي الذي رُشِّح كسفير في الهند، وكان على خلافات مع البغدادي المحمودي في النظام السابق ولم يتم إشراكه في التشكيلة الحكومية الجديدة، فتوسّط الأخ مصطفى عبدالجليل ووزير التعليم آنذاك عقيل حسين مع البغدادي لمحاولة تهدئة النفوس، وفي ما بعد تحدثت مع البغدادي ووجدنا مخرجاً بأن يرشّح العيساوي سفيراً لدى الهند وهو ما حصل. مر عليّ قبل سفره مباشرة في شباط وتحدثنا عن أن الإرهاصات الأولى، بعد مصر وتونس، أصبحت واضحة داخل ليبيا، وكانت هناك دعوات عبر «فايسبوك» للتظاهر يوم 17 شباط الذي يوافق تاريخ التظاهر في 2006 أمام القنصلية الايطالية في بنغازي، مات فيه بعض الشباب. قال لي العيساوي إنه سيقدم استقالته فوراً إذا اندلعت الانتفاضة، وأعلمته أن ليست لديّ استقالة أقدمها لأنني قدمتها فعلاً وأنا أُعتَبَر خارج النظام. كانت هناك إرهاصات وبوادر، وعندما اندلعت الثورة في 17 شباط بدأنا فوراً أنا وعلي العيساوي اتصالات، ومع ابراهيم الدباشي، ثم تواصلت مع مصطفى عبدالجليل في بنغازي، ثم عرضت مقترحاً على الأخوين العيساوي والدباشي، مخافة ان يتكرر ما حدث في الحالة المصرية والحالة التونسية. ففي مصر، لم يكن العالم يعرف مَنْ يقود هذه الظاهرة الجديدة، فالشوارع ملأى بالملايين ولا نعرف مَنْ يقودها، ومَنْ الرأس المحرِّك. اقترحت إنشاء جسم يكون هو عنوان الثورة، حتى اذا سقطت شرعية القذافي يمكن أن تُمنح لهذا الجسم. كتبت تصوراً، بعد أن كنت انتقلت الى الشارقة حيث لديّ مكتب أسسته عام 2003، أرسِل الى علي العيساوي في الهند الذي حوَّله بدوره الى أخيه في بنغازي عبر البريد الالكتروني، إذ كانت الاتصالات مقطوعة. مصطفى عبدالجليل كان في مدينة البيضاء، حيث لا توجد وسيلة اتصال الكترونية، فتوجه شقيق العيساوي الى مدينة البيضاء، في رحلة نحو 250 كيلومتراً شرق بنغازي، لإيصال التصور الى مصطفى عبدالجليل. جاء مصطفى عبدالجليل بهذا المقترح الى الإخوة الذين بدأوا الإرهاصات الأولى لثورة 17 شباط في ميدان المحكمة، وهم قيادات من بنغازي تضم مجموعة من المحامين، حاولت الإمساك بزمام الأمور وأطلق عليها إسم «مجموعة ميدان المحكمة». التقى بهم في الجامعة الدولية الطبية في بنغازي حيث كانوا مجتمعين وقدم المقترح. تم تبني مقترح إنشاء المجلس، وعلمت في ما بعد أن هناك محامياً هو الأخ عمران أبو رويس عرض فكرة مشابهة لإنشاء المجلس. المهم أن المجلس الوطني الانتقالي خرج الى حيِّز الوجود وبدا أن هناك جسماً يقود الثورة الليبية بحيث إن كل اتصالات العالم تتم في هذا المجلس. ثم أعلنت حكومة أزمة من ثلاثة أشخاص برئاستي، فيها علي العيساوي للخارجية والسيد عمر الحريري للدفاع. هكذا بدأت القصة، ثم تم توسيع الحكومة حتى وصلت الى حوالى 12 شخصاً في مجالات مختلفة بعدما اكتشفنا أن الرقعة المحررة الحمد لله كبرت، والمنطقة الشرقية أصبحت شبه محررة بالكامل والناس تحتاج الى خدمات، فبدأ هناك تعليم وصحة وأوقاف وبدأت العملية تتسع، والمال والنفط، وبدأنا نخلق أجساماً بديلة للأجسام الحكومية في طرابلس. أنا عندها كنت انتقلت الى مصر من الشارقة، ثم من مصر انطلقت أولاً الى البرلمان الأوروبي لشرح القضية، ثم من ستراسبورغ الى باريس للقاء الرئيس نيكولا ساركوزي. كيف كان اللقاء مع ساركوزي؟ - هذه النقطة مهمة لأن الدعاوى والأقاويل كثُرت في الفترة الأخيرة حول لقاء ساركوزي تحديداً. لقاء ستراسبورغ في البرلمان الأوروبي كان نقطة البداية. اتصل بي الأخ علي زيدان، وهو شخص حقوقي كان يعيش في ميونيخ، أعرفه قبل الثورة (هو حالياً رئيس الوزراء)، وقال لي: هناك دعوة من البرلمان الأوروبي لتأتي وتتحدث أمامه. رحّبت بهذا الأمر بشدة لاعتقادي بأن شرح القضية للشارع الأوروبي ممثلاً بالبرلمان يمكن أن يشكل عامل ضغط على الحكومات الأوروبية. اتصلت بعلي العيساوي في الهند لينطلق هو الى ستراسبورغ وأتوجه أنا من القاهرة لشرح القضية الليبية. كنتُ أعتقد بأن الأخ علي زيدان هو مَنْ رتّب هذا اللقاء وذكرت ذلك في لقاءات عدة، الى أن ظهر أخيراً أنه كان هناك مستشار لرئيس الوزراء البلجيكي السابق هو مسؤول الليبراليين داخل الاتحاد الأوروبي ضمن منطقة الشرق الأوسط، إسمه كورت ديبوف أعلن أنه هو مَنْ كان يرتب لقاء ستراسبورغ وأنهم كانوا يبحثون عن شخص يعرف محمود جبريل للاتصال به. فتم إعلامهم بأن هناك شخصاً في ميونيخ إسمه علي زيدان يعرف محمود جبريل ويمكنكم الاتصال به عبره. فاتصل بي علي زيدان ولم يخبرني الحقيقة بأن مَنْ رتّب اللقاء هو كورت ديبوف، فأنا افترضت أن علي زيدان هو الذي رتّب هذا اللقاء. علي مشكوراً دفع ثمن التذاكر (للسفر) ودفع للفندق، ولم يستطع علي العيساوي الوصول الى ستراسبورغ نتيجة مشاكل التأشيرة. التأشيرة والترتيب الفرنسي للقاء ساركوزي أيضاً حصلا من خلال مجموعة كورت ديبوف والليبراليين، وهذا ما علمته في ما بعد. الآن ظهر أن علي زيدان كان يدّعي أنه مَنْ رتّب اللقاء مع ساركوزي، ثم ظهر شخص الآن يسعى إلى ترشيح نفسه الى رئاسة الوزارة الليبية إسمه عبدالباسط قطيط، يدّعي أنه هو مَنْ رتّب اللقاء وأنه أرسل طائرة خاصة لمحمود جبريل وعلي العيساوي لإحضارهما الى باريس، وأنه هو مَنْ دفع نفقات الفندق، بينما نحن لم نلتقِ هذا الشخص إطلاقاً ولم نأتِ على متن طائرة خاصة. دائماً النصر يتبنّاه كثيرون بينما الهزيمة يتيمة. وهذا إحقاقاً للحق. كان اللقاء نقطة تحول في الموقف الفرنسي؟ - كنا نعتقد بداية بأن اللقاء سيكون مع آلان جوبيه، وزير الخارجية، ثم بُلّغنا ونحن في ستراسبورغ أن اللقاء سيكون مع ساركوزي، وكان هذا بالنسبة إلي مؤشراً الى اهتمام غير طبيعي بالقضية الليبية: أن يُنقل اللقاء من على مستوى وزير خارجية الى رئيس الدولة، هذا كان مؤشراً إيجابياً يدعو الى التفاؤل، وكان هذا قبل التدخل العسكري. وصلنا إلى باريس بالقطار وجاء علي العيساوي من الهند بالطائرة، وأذكر أننا ولاعتبارات امنية نمنا في فندق درجة عاشرة في أحد الأحياء القديمة. ثم ذهبنا الى الإليزيه وكان معنا السيد منصور سيف النصر الذي أصبح لاحقاً سفيراً في باريس، وهو شخص يجيد الفرنسية وعلى علاقة ببعض الأطراف، وسفيرنا في ذلك الوقت الذي انشق وإسمه محمد صلاح الدين زارم وهو من الأشخاص الذين ساهموا في اللوجستيات لذلك اللقاء. دخلنا الى الإليزيه، ورحّب بنا ساركوزي بحفاوة ولم يكن جوبيه موجوداً، إذ كان في اجتماع مع وزير خارجية ألمانيا في ذلك الوقت. وكان وزير الدفاع موجوداً ورئيس المخابرات، تحدثتُ عن القضية الليبية وعرّفت بالمجلس الوطني الانتقالي: تركيبته ومَنْ الشخصيات التي يضمها، وأهدافنا من هذه الثورة: دولة مدنية ديموقراطية تراعي حقوق الإنسان، همّها مصلحة المواطن الليبي وتعويضه عن حرمانه من التنمية. دولة تدعو الى السلام والاستقرار في المنطقة. ويبدو أن الطرح لقي صدى إيجابياً لدى ساركوزي، ولكن حتى تُسمّى الأشياء بمسمّياتها، أنا أعتقد بأن فرنسا كانت عزمت رأيها على اتخاذ موقف قوي، وأن هذا اللقاء كان مجرد «من باب أن يطمئن قلبي»، اي إذا تأكدت فرضياتنا حول هذا التوجه، نستمر في قضية الاعتراف بهذه الثورة، وإذا لم تتأكد من خلال هذا اللقاء فسيتم التغاضي عنها. كانت أمام ساركوزي ورقة فيها تفاصيل محددة لأنه سألني: ماذا تريدون منا؟ أنا تكلمت عن الاعتراف بالمجلس الوطني الانتقالي كجهة وحيدة وشرعية ممثلة لليبيين، وعن احتياجات لوجستية للثوار على الأرض، احتياجات الغذاء والدواء، جُملة من الاحتياجات قدمتها على الطاولة. وهو كانت أمامه ورقة والأشياء التي قرأها منها تغطي في مجملها هذه الاحتياجات، لكننا فوجئنا بقضية الاعتراف. ما تفسيرك لهذا الموقف الفرنسي؟ - طرحتُ الفكرة كأمل، ولكن لم أكن أتوقع أن تتم الاستجابة أو أن يكون هناك استعداد للاعتراف بهذه السرعة. تفسيري أن هناك أموراً ساهمت: أولاً، أن ساركوزي تعرض لنقد شديد بسبب تأخره في موقفه من الثورة في تونس تحديداً، بحكم علاقات تونس التاريخية مع فرنسا، وتجاه مصر، وكان لا بد من أن يعوّض عن ذلك التأخر تجاه الثورة الليبية. ثانياً، هناك مواقف شخصية بين ساركوزي والقذافي فيها كثير من التوتر، مثل قضية الممرضات تحديداً، لأن ساركوزي عندما زار ليبيا لم يستجب القذافي طلبه، بينما استجاب طلب زوجته (السابقة) سيسيليا، ثم خرجت بعض التأويلات وبينها أنها قضت بعض الوقت مع القذافي... وأُشيعت تقارير وأقاويل. هناك شيء من الكره من ساركوزي للقذافي، وكان واضحاً. وكان هناك حديث من الجانب الليبي عن دعم مالي قدمه نظام القذافي لحملة ساركوزي الرئاسية. فكانت هناك جملة أشياء شخصية، إضافة الى أشياء تخص فرنسا. فالرأي العام الفرنسي كان ينتقد ساركوزي، واستطلاعات الرأي العام أظهرت أن شعبيته متدنية جداً، وربما اعتقدَ بأن هذه القفزة الخارجية الجريئة ستساعد في تعديل كفة استطلاعات الرأي لمصلحته. وفعلاً تأثرت استطلاعات الرأي إيجاباً بهذا الموقف. همسَ علي العيساوي في أذني أن أسأل ساركوزي: هل لنا أن نعلن هذا الاعتراف؟ سألته فأجاب: نعم يمكنكم إعلان هذا الاعتراف. عندما خرجنا، طلب مني العيساوي أن أتحدث الى وسائل الإعلام، فقلت له أن يتحدث هو معها. تحدث وأعلن اعتراف فرنسا، وكان أول اعتراف من أي دولة، وكانت المفارقة الغريبة أن يكون الاعتراف من فرنسا قبل أي دولة عربية. فرنسا وضعت كثيرين أمام موقف صعب، سواء في الغرب أو بين العرب. ماذا عن ايطاليا؟ - إيطاليا وبعد أيام كان لا بد من أن تعترف، نتيجة العلاقة التاريخية بليبيا والعلاقات الاقتصادية. كان موقف إيطاليا صعباً: إن لم تعترف فمعناه أن فرنسا مستقبلاً سيكون لها السبق في التواجد داخل ليبيا. وسفيرنا في روما حافظ قدّور لعب دوراً محورياً في هذا الاعتراف مع رئيس الوزراء الايطالي سيلفيو بيرلوسكوني الذي كان متردداً. الرئيس (الإيطالي) كذلك، ولعب (وزير الخارجية السابق) عبدالرحمن شلقم دوراً. ذهب علي العيساوي الى ايطاليا عندما أصبح الاعتراف جاهزاً، وأُعلِنَ على لسان وزير الخارجية الإيطالي. أود في هذا الحديث توضيح مسألة للقارئ العربي وللقارئ الليبي تحديداً: إن المراهنة على النضال السياسي للقضية الليبية كان خياراً استراتيجياً بالنسبة إلينا في المقاومة. ففي البدايات، وخلال التركيز على العامل السياسي، كنا نخشى ألا نستطيع عسكرياً أن نحقق نصراً حقيقياً في مواجهة هذه الآلة الجهنمية، قبل تدخل «الناتو» وقبل القرار الرقم 1973. فالاعتراف الفرنسي جاء قبل تدخل «الناتو». كان التصور الذي ناقشته مع بعض الإخوة مثل عبدالرحمن شلقم أننا ربما نكرر حالة روديسيا بحيث يستمر نظام القذافي، لكنه يكون فاقداً الشرعية أمام العالم فيُطرَد من الأممالمتحدة ويُطرَد من كل المنظمات، فيصبح نظاماً مارقاً فاقداً الشرعية في العالم كله. كان هذا أحد الاحتمالات، بالتالي الدفع بقوة في المعركة السياسية لسحب البساط من تحت النظام، إذ تستطيع من طريق الاعتراف الحصول على السلاح وعلى الغذاء والدواء والمعونات الإنسانية، وكل شيء إذا اعترف بك الآخر. ولكن إذا كان الآخر أعطى اعترافه للنظام، فكل هذه الأشياء التي تحتاجها بشدة في معركتك ضد النظام ستُحرَم منها. بالتالي كان الخيار السياسي، بالنسبة إليَّ على الأقل، خياراً أوّل وكُرِّست غالبية الوقت لهذا الأمر. ظهرت لاحقاً بعض الأصوات التي تنتقد هذا الأمر، كيف أن محمود جبريل قضى أغلب الوقت في الخارج من طائرة الى طائرة. أنا قمت بمئة رحلة ورحلة خلال ثمانية شهور وزرت أكثر من 34 بلداً، أحياناً من دون توقف من بلد الى آخر، كان الأمر سباقاً مع الزمن. وفعلاً لا بد من ان نذكر أننا دخلنا الأممالمتحدة ودخلنا جامعة الدول العربية، قبل أن ننتهي من تحرير كامل التراب الليبي. في 27 آذار (مارس)، تسلمنا مقعد ليبيا في الجامعة. وفي 20 أيلول (سبتمبر) 2011، تسلمنا مقعد ليبيا في الأممالمتحدة، والقذافي قُبِضَ عليه في 20 تشرين الأول (اكتوبر)، وتحرير كامل التراب الليبي أُعلِن في 23 تشرين الأول إذ كانت هناك ثلاث جبهات لم تُحسم: جبهة سرت وجبهة سبها وجبهة بني وليد، وكانت لا تزال المعارك فيها قائمة. أي أنه كان هناك سبق سياسي بمدة شهرين. تسلّمنا مقعد ليبيا في الأممالمتحدة في 20 أيلول، أي أن الانتصار السياسي تحقق قبل الانتصار العسكري. هذا جعلني وزملائي من سفراء، ابراهيم وعبدالرحمن وبقية سفراء كثيرين، تحديداً انشقاق 26 سفيراً بعد خطاب سيف الإسلام نجل القذافي، نخوض معارك قوية. كثيرون من العاملين في السفارات بذلوا جهوداً خرافية لتحقيق هذه الانتصارات السياسية. هذا الوقت المكرّس فُسِّر من أطراف كثيرين في معاركهم الآن بأن محمود جبريل كان خارج بنغازي، وأن محمود جبريل كان خائفاً من الاغتيال، بينما الاغتيال في الخارج كان أكثر احتمالاً منه في الداخل. على رغم ذلك، الناس لم تنتبه الى هذا الأمر. هناك أيضاً أمر آخر مهم جداً، في الثورات يجب الحفاظ على سلامة القيادات، لأن ضربها يؤدي الى انهيار الروح المعنوية. أذكر حواراً حصل بيني وبين علي الترهوني الذي كان مسؤولاً عن مكتب المالية والنفط في المكتب التنفيذي، وهو زميل عزيز وشخص وطني بكل المقاييس بذل جهداً خرافياً أيام التحرير. خرج علي ومعه حقيبة فيها مال مع مجموعة من الثوار ومعهم أسلحة، ليتوجهوا بحراً من بنغازي الى مصراتة التي كانت جبهة مفصلية بالنسبة إلينا، وعانوا أخطار البحر ووجود قطع بحرية للنظام. بعد أن بلغني الخبر، اتصلت بعلي بعد وصوله وأعتقد بأنني كنت قاسياً في الكلام معه. قلت له إن هناك فرقاً بين التهور والشجاعة، لا سمح الله لو قبض عليك النظام أو أسرك لنشروا أن قيادات الثورة بدأت تنهار وقد قبضنا على واحد منهم. لا يمكن أن تتخيل مدى الانهيار في الروح المعنوية للمقاتلين في الجبهات، عندما يُعلَن مثل هذا الخبر. شجاعة السياسي هي شجاعته في اتخاذ القرار، بينما شجاعة المقاتل هي في الإمساك بهذه البندقية والإقدام، فلكل نوع شجاعته. فأنا لو كنت داخل الجبهة شجاعتي تظهر في القتال، ولكن لو أنا مع مجموعة رموز مثل مصطفى عبدالجليل اهتم بضمان أمن الرموز لمصلحة الثورة. أكثر من مرة كنت أقول لمصطفى عبدالجليل إن الطريقة التي تتحرك بها من ناحية الحراسة طريقة غير صحيحة لأنك لو أُصِبت، لا سمح الله، ستنهار هذه الثورة، فالقضية تتمحور في رمزيتها حول أربعة أو خمسة أشخاص. لذلك لم يكن اعتباطاً أن النظام أصدر قراراً قضائياً من المحكمة بإعدام 21 شخصية، شخصيات متعددة أنا بينها ومصطفى عبدالجليل وعلي الترهوني ومحمود شمام، وهذه الشخصيات هي التي كانت في الواجهة. وقد كشفت محاولات لاستهداف الأسماء البارزة التي تحركت لإسقاط نظام القذافي. هل تحدث ساركوزي عن أي تحرك عسكري خلال لقائكما؟ - في اللقاء الأول، لم يكن هناك حديث عسكري حقيقي، ولكن كان هناك نوع من التعهد بكل أشكال الدعم، ما يحمل في طياته دعماً عسكرياً. قال: سنقف مع الشعب الليبي بكل امكاناتنا في كل المجالات. ووصف القذافي بالديكتاتور، كما أن هذا الوصف تردد على ألسنة الكثير من الحكام أو الرؤساء الذين التقيتهم مثل أمير قطر ورئيس فرنسا، ما عدا بيرلوسكوني الذي لم يسئ الى القذافي بشيء على مستوى التجريح أو الشتائم. متى التقيتَ أمير قطر (السابق) الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني؟ - بعد عودتي من فرنسا الى مصر أصبحت المواجهة مكشوفة، ومصر لم تكن آمنة بالنسبة إليّ، لأنها كانت قريبة جداً، وكثيرون من أعوان القذافي كانوا متغلغلين داخل مصر، فكان لا بد من البحث عن مأوى، والمأوى قطعاً يتيح لك أن تتحرك خارجياً بسرعة شديدة للقيام بالعمل السياسي المطلوب. كانت قطر أعلنت موقفها في ذلك الوقت وهذا شجعني. كلمت وضّاح خنفر الذي كان مدير قناة «الجزيرة»، وكنت تعرفت إليه خلال فترة عملي الاستشاري حين أعددت الهيكل التنظيمي لقناة «الجزيرة» ورسمت لها خريطة البرامج ودرّبت مديري الإدارات بمن فيهم وضّاح خنفر. وقلت لوضاح أنا الآن أصبحت طريداً لنظام القذافي ولا بد من متابعة هذا العمل الخارجي، فأتمنى لو تسأل القيادة القطرية إذا كان ممكناً استضافتي في قطر أم سأكون عبئاً بالنسبة إليهم. قال لي إنه سيعود إليّ. ويبدو أنه أجرى اتصالاته وبعدها بنحو ساعتين أو ثلاث عاود الاتصال بي وقال: أنتَ مرحَّب بك. وجهّز لي التأشيرة وتذكرة السفر. انتقلتُ الى قطر وبدأ التحرك الديبلوماسي من نقطة الانطلاق قطر. ثم تحولت الدوحة بعد ذلك الى وجهة كثيرين من الليبيين الذين سافروا من طرابلس الى تونس ومنها كانوا يأتونني الى قطر، أو يغادرون من المنطقة الشرقية الى مصر ومنها الى الدوحة. ثم أسسنا فرع المكتب التنفيذي من بعض الشباب المتطوعين، لمساعدتي في العمل التنفيذي. اللقاء الأول بعد وصولي الى الدوحة ب 48 ساعة التقيت الشيخ حمد أمير قطر، ورحّب بشدة وشدَّ من عزمنا وعبَّر عن الدعم الكامل للثورة الليبية. قال: نحن معكم قلباً وقالباً، ولم يتردد في إغداق كل عبارات الدعم. حدث لقاء بعد ذلك بالشيخ حمد بن جاسم رئيس الوزراء وزير الخارجية وكان أيضاً مرحِّباً وداعماً، ما أعطى شيئاً من التطمين. وكانت التحركات كلها من داخل قطر. كان هناك شخصان داخل قطر يمسكان بالملف الليبي، هما ولي العهد الشيخ تميم الذي أصبح الآن أميراً وكان دوره الإشراف العام، اما العمل الميداني داخل ليبيا فكان من مسؤولية رئيس الأركان في الجيش القطري حمد العطية. كان عندي اعتقاد في البداية بأن كل الاتصالات مع الجانب الليبي ستتم عبر قناة المكتب التنفيذي الذي أرأسه، خصوصاً أنني موجود على أرض قطرية. بعد أسابيع قليلة اتضح ان القيادة القطرية تتحدث مع قنوات عدة، ويبدو أنه كان هناك رهان مبكر على التيار الإسلامي في ليبيا، فكانت قطر تعمل في قناتين: قناة رسمية معي أنا ومع مصطفى عبدالجليل، وما تخبره لمصطفى عبدالجليل لا تخبره لمحمود جبريل على المستوى الرسمي، وقناة أكثر فاعلية غير معلنة مع بعض الشخصيات في التيار الإسلامي السياسي مثل الشيخ علي الصلابي وعبدالحكيم بلحاج، ثم تتالت الشخصيات التي كانا يُحضّرانها للتعرف الى القيادة القطرية وربط العلاقات مع الدوحة. فالقنوات كانت متعددة، لكن الرهان أو الثقل كان في اتجاه التيار الاسلامي السياسي. محمود جبريل ومجموعة الوجوه التي كانت تقود العمل الديبلوماسي كانت تخدم الغرض الديبلوماسي ووُفِرت لها السبل، وكانت سياسياً تسير على أكمل وجه مع زملائه من السفراء وبينهم عبدالرحمن شلقم، لكن العمل الميداني على الأرض كانت له قنوات أخرى. هذا الأمر هو الذي نتجت منه في ما بعد ازدواجية في حركة الثورة بعد دخول طرابلس. كان هناك مشروعان: مشروع لتيار الإسلام السياسي وآخر اعتبرتُه أو سمّيتُه - ولا أعرف إن كنت مصيباً في هذه التسمية - المشروع الوطني الذي كان يهدف فعلاً الى دولة مدنية عبر حوار وطني وجمع الشمل منذ البداية، والحديث عن ليبيا المستقبل ومصالحة وطنية وتناسي جراح الماضي. هل تولّت قطر تمويل حركتكم ورحلاتكم في ذلك الوقت؟ - الأخ محمود شمام تحدث مع الشيخ حمد بن جاسم، وأنا كنت معه في ذلك اللقاء، وأبلغه أننا نتحرك بطيران تجاري، وهناك عبء أمني بالتنقل من طائرة الى طائرة. والشيخ حمد بن جاسم مشكوراً أمر بتخصيص طائرة صغيرة أصبحت وسيلتنا للتنقل، وهذا بعد نحو شهرين على انطلاق الثورة، نهاية نيسان (ابريل) وبداية أيار (مايو). قبل ذلك، كانت حركتنا كلها عبر الطيران التجاري. الطيران كان تقريباً في شكل مستمر، بعض هذه الزيارات نرتّبه شخصياً وبعضها الآخر كان بترتيب من القطريين، وبعضها بترتيب من الإخوة الإماراتيين. زيارة جنوب افريقيا قامت بترتيبها دولة الإمارات، وخصصت طائرة لتلك الرحلة من الإمارات، ولم تكن طائرة من قطر. غداً حلقة ثانية